وزّع وزير الصحّة جميل جبق وعوداً بالجملة، تستجيب لمطالب مزمنة يرفعها سكان عكار وطرابلس، ومناطق الأطراف، منذ أمد بعيد. قد يعتبر البعض هذه الوعود «شعبوية» أو تنطوي على أهداف سياسية، وقد يعتبرها بعض آخر متعارضة مع التزام الحكومة بالتقشف وخفض الإنفاق العام وضبط العجز… إلا أن كل ذلك، سواء كان صحيحاً أم لا، لا يلغي أن مناطق كعكار وطرابلس، مثلاً، اللتين تضمان أكبر عدد من فقراء لبنان والنازحين السوريين، تحتاج بإلحاح إلى تدخّل الدولة وتمكين الناس من الوصول إلى حقهم بالصحة وتفادي المزيد من الموت على أبواب المستشفيات.

في 23 تشرين الثاني 2015، توفي أحمد عبد المجيد، في عكّار، بعدما رفض أحد المستشفيات الخاصة استقباله. قبلها، في العام نفسه، توفي الطفل عبد الرؤوف الحولي (أربعة أشهر) والطفلة إنعام ربيع (ستة أشهر) للسبب نفسه. وفي كانون الأول الماضي، مات الطفل الفلسطيني محمد وهبة في طرابلس بحجة عدم توافر أسرّة في قسم العناية الفائقة… توجد عشرات الحالات والأمثلة عن مأساة فقراء عكار وطرابلس نتيجة حرمانهم من حقهم في الوصول إلى الخدمات الصحية. وعلى رغم فداحة هذا الواقع، لم تقم الحكومات المتعاقبة بأي تدخّل لوقف هذه المأساة أو حتى الحد منها، بل بقيت ظاهرة «الموت على أبواب المستشفيات» تتوسع نحو المناطق المختلفة.

 

تعدّ منطقة الشمال الأكثر فقراً وحرماناً في لبنان، إذ إن أكثر من ثلث سُكّانها يعيشون تحت خط الفقر، وفق تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2017، وتتعدّى نسبة الفقراء المقيمين فيها المعدل الوطني (36% في الشمال مُقابل 27% على الصعيد الوطني). ناهيك عن أن هذه المنطقة شهدت، منذ عام 2011، تركزاً كثيفاً للاجئين السوريين، إذ استقبلت وحدها نحو 29 في المئة من مجمل اللاجئين إلى لبنان، ووصلت نسبتهم إلى نحو 32 في المئة من مجمل عدد السكان. وهذا الواقع عنى، عملياً، مزيداً من الضغط على الخدمات الصحّية والمُستشفيات الحكومية ومزيداً من المزاحمة على هذه الخدمات والتجهيزات المحدودة أصلاً. في حين أن وزارة الصحة عمدت في ظل الحكومة السابقة إلى مواجهة هذه الضغوط بخفض السقوف المالية للمستشفيات، بذريعة مكافحة «الهدر»!
لا تضم عكار سوى مستشفى حكومي واحد، إضافة إلى ثلاثة مستشفيات خاصة، جميعها متعاقد مع المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، وتقضي مصلحتها الربحية بعدم استقبال المرضى على حساب وزارة الصحة والصناديق الضامنة. إلا أن المشكلة الأكبر، التي زادت من حرمان المقيمين في عكار من الوصول إلى الخدمات الصحية، تكمن في المستوى المتدني للسقوف المالية المخصصة لهذه المستشفيات من قبل وزارة الصحة، ومحدودية الأسرّة المخصصة للاستشفاء على حساب الوزارة.

في جولته على المستشفيات الحكومية في عكّار وطرابلس، شدّد وزير الصحة جميل جبق على أنه «لن يُسمح لأي مستشفى برفض أي مريض»، و«ممنوع ردّ أي محروم لا يحمل الأموال التي تخوله دخول مُستشفى». وفي هذا السياق، أعلن عن رفع السقف المالي لمُستشفى طرابلس الحكومي إلى عشرة مليارات ليرة بعدما خفّضها وزير الصحة السابق غسان حاصباني من سبعة مليارات و400 مليون ليرة إلى سبعة مليارات. كما أعلن عن إلغاء السقف المالي لمستشفى عبدالله الراسي الحكومي في حلبا، «ليستوعب كل المرضى، خصوصاً غير المشمولين بأي تغطية صحية من أي جهة ضامنة». علماً أن السقف المالي لهذا المستشفى الذي يخدم شريحة سكانية ضخمة خُفّض العام الماضي من 4 مليارات و550 مليون ليرة إلى 4 مليارات. ووعد جبق بتحسين مستشفى «أورانج ناسو» في طرابلس «المغبون بالسقف المالي» (ملياران و50 مليوناً)، لافتاً إلى أن مركز غسيل الكلى الموجود في هذا المستشفى «يستقطب أعداداً هائلة… ويمكنه أن يستوعب مرضى الكلى في منطقة الشمال كلها». وأدرج مستشفى المنية الحكومي على قائمة «المُستشفيات المنكوبة» معلناً نيته تعديل سقفه المالي (مليار و90 مليوناً) «بمجرد وصولي إلى مكتبي الإثنين (اليوم)».
ووفق دراسة للبنك الدولي، يعمل معظم القوى العاملة في الشمال في «وظائف متدنية الإنتاجية» يغلب عليها الطابع اللانظامي، ما يعني أن القسم الأكبر من المُقيمين في هذه المنطقة ليسوا مضمونين صحياً، وهو ما أشار إليه جبق بقوله إن «نحو نصف اللبنانيين غير المضمونين في لبنان هم من أبناء عكار»، مشيراً إلى أنّ أغلب الاتصالات التي تلقاها منذ تسلمه الوزارة كانت من الشمال ومن عكار خاصة». هذا جزء من الصورة التي لا يمكن الهروب من مواجهتها.
جبق زار أمس، أيضاً، مُستشفى نبيه بري الحكومي في النبطية وأعلن رفع السقف المالي للمستشفى، لافتاً إلى «خطة لدى الوزارة لمنطقة النبطية وللجنوب ككل».
الجدير ذكره أن حاصباني خفّض العام الماضي أيضاً السقف المالي لهذا المستشفى من 6 مليارات و900 مليون ليرة إلى 6 مليارات و800 مليون.
ووفق دراسة للمركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، فإنّ نسبة الأسر المحرومة في محافظة النبطية تتجاوز 50% في مؤشرات الوضع الاقتصادي والوضع الصحي وخدمات المسكن.
ما أعلنه جبق، في اليومين الماضيين، ليس إلا جزءاً يسيراً مما يتوجب على الدولة تقديمه إلى الشمال والجنوب والبقاع، وكل مناطق الأطراف. وإذا كان رفع السقوف المالية المخصصة للمستشفيات القائمة هناك لا يعدّل في النظام الصحي المطلوب تغييره جذرياً، إلا أنه ينطوي على تصحيح جزئي يطالب به هؤلاء السكان وينتظرونه منذ سنوات طويلة بلا جدوى.

المصدر: هديل فرفور – الأخبار