ذات تمّوز ٢٠٠٦، فيما كان العدوان الهمجي الأميركي الصهيوني يقصف بيوتنا وحياتنا، وفيما كانت جثث أطفالنا ترفع الكرامة شارة مقاومة، كان المدعو فؤاد السنيورة، مع آخرين، يرفع نخب الرهان على سقوط المقاومة، قبلات وأحضان يستقبل بها وزيرة الخارجية الأميركية، ثم يمضي إلى الأمم المتحدة باكيًا، والدّمع في عينيه، وأمثاله دمعه يفوق دمع التماسيح كذبًا ونفاقًا.
هو نفسه اليوم، المتّهم المدان، صعد منبر مؤتمره الصحافي، متسلّحا بدمع من تركيبة مختلفة عن تلك التي استخدمها في مجلس الأمم.. 
نهض اليوم باكرا. ارتدى بأناقة ثوب الضحية المظلوم، ومن شدة خوفه من الاحتكام للقضاء، لجأ إلى مسرحة حكاية السرقات وتحويلها إلى مصاريف تحت سقف القانون. سرد حججًا واهية تعكس وهنه أمام احتمال المحاسبة. وهو أشد المدركين لحجم عقاب ما صنعت يداه.
على سبيل الواقعية والأمانة، السنيورة ليس المسؤول الوحيد عن ملفات السرقات المنهجية التي بدأت مع ما سمي بمشروع الحريري. سبقه إلى كار السمسرات المليونية كثر، وتبعه كثر. وقد تكون الصيغة اللبنانية القائمة على المحاصصة قد سهّلت عليه الأمر، وأوهمته أن لن يحين يومٌ للمحاسبة، ولن يأتي من يدعو إلى تحقيق وقصاص في الجرائم المالية إلا أنّه أكثرهم وقاحة، وبالطبع صاحب أعلى رصيد من الصفات التي ترادف كلمة "حرامي" في قاموس اللبنانيين، إلى الحد الذي أصبح اسمه "صفة" تُطلق على كل من ارتكب السمسرة التي من سرقة وهدر، ونفاق حد الغثيان... 
السنيورة اليوم، باستخفافه المسرف بعقول الناس، أقفل على نفسه قفص الاتهام وأضاع أحد عشر مليار فرصة للتراجع، وحسنا فعل، فقد تبيّن أنه أمضى الوقت السابق في ترتيب فواتير وشعارات توهم السامعين أنّ ارتكاباته لم تكن شخصية، وأن المبالغ التي مرّرها إلى حسابه، وحسابات أخرى، كانت مشاريع تخص الدولة.
وهذا صحيح إذا صحّ اعتباره أنّ الدولة ملك شريكه المرحوم، وله من ميراثه حصة، حصة لم تحسمها الوفاة فسوق المال لا ينام، ولا نام السنيورة. هو اليوم اسم يختصر المنظومة التي لم يصنعها إنّما كان شريكًا فيها حتى النخاع، مستفيدًا منها في كل شارداتها ووارداتها، مؤمنًا بنهائيتها حد هروبه إلى الأمام.. بدا مستميتًا في إثبات "حقّه" بالسرقة أكثر منه ساعيًا إلى إثبات براءة منها. ويؤكد ذلك تغريد أحد صبيته بالأمس أن السنيورة ارتكب كل ما وُجِّه إليه "والزلمة يقرّب عليه". بشكل أو بآخر، يعبّر هذا الكلام بحرفية عالية عن ماهيّة هذه المنظومة التي اسمها في السياسة اليوم "الفساد". أفرادها لم يفكروا يومًا أن أحدًا لن يكون شريكًا بها، وبالتالي اعتبروا أن لن يتجرأ أحد على فضح السرقات. فقد اعتقدوا طويلا، وربما توارثوا اعتقادهم، أنهم شاركوا كل الأطراف في تنظيم السرقات، وتقاسموا مع الجميع الحصص بحيث لن يقول أحد إن ما يحدث هو سرقة موصوفة. بدأ وهمهم بالانحسار منذ أن قال السيد حسن  نصرالله إن متابعة "ملف الفساد" أولوية لحزب الله.. لكنّهم بقوا في حالة من التشكيك بالمسألة، حتى بدأ العمل الفعلي بالاحتكام إلى القضاء، كأقلّ الإيمان في محاكمة من تثبتت عليه تهمة "السرقة" و"الهدر" ومن تعاون معه. استعجل السنيورة إدانته، وما انتظر حكم القضاء في ما ارتكب.. ما انتبه إلى حجم الإساءة للناس، كل الناس، عندما قام بادعاء الطهر فيما تفوح منه رائحة النجاسة. لقد أضاف ذلك المتهم اليوم إلى سجله ارتكابًا قد لا يسجله القانون لكن تسجله عقول الناس، والتاريخ.. لقد قام، بوقاحة تفوق وقاحة تلك التي ما افصحها إن حاضرت بالعفة، بتظهير "جرائمه" وكأنها حق مكتسب له وللدولة التي يظنّها شركة من شركات الحريري معلمه وأستاذه.. ومن شابه أستاذه في ما اصطلح على تسميته "الفساد"، ما ظَلَم.

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع