لم يكن نقصُ المال وحده ما أدى إلى إقفال صحيفة "المستقبل" التابعة للتيار المسمّى بالاسم نفسه، فقد كانت الصحيفة تعاني، مثلها مثل باقي أبواق "تيار المستقبل"، من أزمة أخلاقية تتفرع عنها أزمات أخرى كالمصداقية والموضوعية والمنطق وهلمّوا جرّاً.
وُجد الإعلام المستقبلي لغاية واحدة فقط، استعمالُه سلاحاً حين الضرورة، يلجأ إليه صاحبه عند الشدائد، وفي حال الرخاء السياسي فلهذا الإعلام أخباره وبرامجه لا سيما المشاهَدة منها، والتي قلما استرعت انتباه اللبنانيين.
ومن سوء حظ مؤسس هذا الإعلام أن اللجوء إليه سلاحاً نوعياً مدمراً لم يحصل إلا حين اغتياله في العام ألفين وخمسة، فجرى التسديد على أطراف لبنانية وأخرى عربية والتصويب نحوها اتهاماً لها بالوقوف خلف الاغتيال زوراً وبهتاناً وسياسياً، وحين لم يجدِ التصويب السياسي كان الحلّ التصويبَ المذهبيّ على الموصوفين بالجناة، وما أسهل الاتهام وما أصعب تقديم الدليل.
ثم كان الاستعمال الاستراتيجي الثاني للإعلام المستقبلي في أيار/ مايو من العام ألفين وثمانية، يوم جرى توصيف الأحداث التي حصلت في بيروت وبعض المناطق بأنها رغبةٌ لدى فريق من مذهب بالسيطرة على مناطق فريق آخر من مذهب آخر، ونجح هذا السلاح الإعلامي في إثارة الغرائز وتهييج النفوس، لأن الفتنة ـ وللصراحة ـ كانت الموضوع الوحيد الذي أبدع فيه هذا الإعلام.
هكذا تفرّق المسلمون بين مذهب وآخر، بعد أن تفرق اللبنانيون من قبلُ بين طائفة وأخرى، ولم يكونوا في الحالتين ملتفتين إلى أنهم فريقان، أو كانوا ملتفتين لكن دون مبالاة، لأن الوطن لبنان يجمعُ، قبل أن يعمل المفرقون على التفريق طوائفَ ومذاهب وصولاً إلى الحارات والعائلات.
هكذا حصل الشرخ النفسي، والمناطقي أحياناً، بين مسلم وآخر، لتستغلّ الدول المتغوّلة الظرف، كعادتها، وترمي بنفطها على الرماد المشتعل، وكان ما كان.
وجاءت الأحداث الجسيمة في سوريا، جارة لبنان وشقيقته، رفيقة سرّائه وضرّائه، ملجأ أبنائه يوم حرب، وسوق فقرائه يوم حاجة، وسند ظهره يوم اشتداد الخطوب، وكان أن اجتمعت على سوريا غربان العالم وكل حشراته الضارة، حاملةً جراثيم الحقد والكره والطائفية والفتنة والدمار، فنشطَ الإعلام المستقبلي، وهبّ للقيام بوظيفته الموصوف بالإبداع فيها، مصوّراً المجرمين ثواراً في سبيل الحرية، وتدميرَ المدن إعماراً ليوتوبيا جديدة، وقتلَ وذبحَ وإحراقَ المدنيين إنباتاً لجيل جديد سيحيا في سعادة غامرة في ظل دولة "داعش" وأمثال "داعش".
كلما حُشرَ تيار "المستقبل" لجأ إلى إعلامه، والفتنةُ أشد من القتل، في حال مستعمل الفتنة، لكنها أشد من القتل أيضاً في ما تتركه من آثار في المجتمعات والدول، وكلما وُجّه اتهام لمستقبليٍّ بارتكاب جرمٍ ما، وحتى قبل أن يوجَّه الاتهام كما هو حاصل خلال هذين اليومين، ثارت النفوس القبيحة، وتحركت الأصوات المختصة بالفتنة، فإذا هذا الاتهام، الذي نكز إبط ذاك المستقبليّ، دعوة للحرب على مذهب وإذا بصاحب الإبط المنكوز هو المذهب والطائفة والقضية والخطّ الأحمر.
هذا هو الإعلام الذي يقتات من قهر الناس، وينمو على كُرَيات دمائهم الحمراء، ويتّقد ويضيء من وقود الفتنة، التي إن لم تكن لا يكون، وإن كان عندها، فهو إعلام تفاهة وإفساد وملء وقت بانتظار فتنةٍ أخرى.
فلماذا أوقفت صحيفة "المستقبل" عن الصدور وبقيت القناة التلفزيونية إذاً؟ لأن الصورة أشدّ إثارة للفتنة من الكلمة المكتوبة، التي يغني عن وجودها في الصحيفة نقيق الضفادع المستقبلية على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض المستقبليين صاروا أساتذة في النقيق، ولا شك بأنكم تعرفونهم.
فيصل الاشمر