هيام القصيفي – الأخبار
منذ أن تألفت الحكومة وهناك نزعة الى تصوير الوضع الداخلي على أنه سيشهد قفزة نوعية على كل المستويات، وكأننا في بداية عصر ذهبي وعهد رئاسي جديد. فجأة بتنا امام ورشة تشريعية وحكومية، يتبارى فيها النواب والوزراء في فتح ملفات الفساد وتشكيل المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. وبدأت تتوالى الاقتراحات من اجل نظام مالي منزّه عن الشبهات، حتى وصلت «الشفافية» الى المطالبة برفع السرية المصرفية، ويتسابق الوزراء الى تبيان إنجازاتهم السريعة، وكذلك النواب الذين باتوا في مقدمة المشهد السياسي لكسب ودّ ناخبيهم وزعمائهم، ليلحقهم تباعاً مسؤولون إداريون في هيئات رقابية ملوّحين بعقوبات ونفض الغبار عن ملفات الفساد ومحاكمة المتورطين. لكن المبالغة في تحول كثير من افراد الطبقة السياسية والادارية بين يوم وآخر من مرتكبين أو شهود زور الى محاسبين، تجعل من الصعب تقبل هذا الواقع العبثي في التفتيش عن المدينة الفاضلة، وسط كميات الفضائح التي خبر لبنان مثيلات لها وانطفأت في مهدها.
هذا الانفصام الذي يعيشه لبنان بين محاولة تجميل الوضع الداخلي وحقيقة التحديات التي يواجهها جدياً، يبدو في مكان ما وكأنه مقصود في عملية إلهاء حقيقية عما يدور حول الوضع الداخلي وارتداد التجاذبات الاقليمية عليه. ليس بسيطاً أن يكون لبنان محور الاهتمام الدولي والاقليمي حالياً، في ملفّي النازحين السوريين والارهاب، فيما هو ضائع بينهما لأسباب انتخابية ومصالح سياسية. ففي وقت تنشغل فيه اوروبا في تلقّي انعكاسات إنهاء تنظيم الدولة الاسلامية والمقاتلين الاجانب وزوجاتهم الغربيات وفتح ملف مجرمي الحرب بين اللاجئين الى دولها، وخوفها من تسربهم اليها عبر دول الجوار السوري، يعيش لبنان وكأنه في معزل عن تصفية مسلحي التنظيم وتسربهم. في لقاءات أميركية أمنية عقدت اخيراً في بيروت جرى التحذير مراراً من هذا التسرب وضرورة التحوّط منه.
في الوضع السوري ايضاًـ لا يزال لبنان في قلب الحدث، لأن تسارع الخطوات العربية تجاه النظام السوري، أوحى لبعض القوى السياسية بأن طريق دمشق فتحت مجدداًـ، وأن عودة التطبيع العربي مع سوريا سائرة بخطى حثيثة. لكن سرعان ما لجم الاميركيون هذا المسار، وأوقفوا الاندفاعة العربية. وهذا من شأنه ان يضاعف الارباكات اللبنانية، في ضوء خريطة طريق تريد واشنطن وضعها امام لبنان أسوة بالعالم العربي الذي يأتي اليه وزير الخارجية الاميركي مارك بومبيو في جولة شرق اوسطية ثانية في فترة زمنية قصيرة.
من الواضح حجم الضغط الغربي على لبنان، في ظل عجقة الموفدين الفرنسيين، لمؤتمر سيدر وغيره، والالمان والبريطانيين الذين دخلوا بقوة على خط تطويق حزب الله، والاميركيين، في جولات استطلاع متتالية، ولتوجيه رسائل بعضها بالمباشر وبعضها متروك للبنانيين فك شيفرتها. لكن اذا كانت زيارة بومبيو المنتظرة الى بيروت معروفة العناوين مسبقاً، وقد سبق أن أبدى مخاوف من تزايد نفوذ حزب الله في الحكومة والمجلس النيابي العام الماضي، بعدما سبقه اليها مساعده لشؤون الشرق الاوسط دايفيد ساترفيلد، الا أن ما هو غير معروف هو ما الذي يريده الاميركيون حقيقة من لبنان، وآليات تطبيق ما يريدونه فعلياً في ظل السلطة الحالية القائمة. لان ما يريده الاميركيون من الإقليم لم يتبلور بعد في شكل واضح، بعد ما جرى إثر اعلان انسحابهم من سوريا، ما ينعكس التباسات ايضاً على رؤيتهم للوضع اللبناني، خصوصاً انهم في عز مواجهتهم مع ايران، المفتوحة على احتمالات كثيرة سلبية او ايجابية لكليهما.
ومن غير المعروف ايضاً كيف يمكن للبنان ان يواجه هذا الضغط المتزايد، اميركياً وعربياً، وما يقابله ايرانياً بطبيعة الحال، عبر سياسة الهروب المتزايد الى الامام بفتح ملفات اقتصادية ومالية، وملهاة مكافحة الفساد. ومن الذي سيرسم حقيقة سياسة التعامل مع المطالب الاميركية المالية والاقتصادية والامنية والسياسية، مجلس الوزراء مجتمعاً أم رئيس الجمهورية، أم ان كل قطاع معني سيتعامل مع المطالب على حدة، كمصرف لبنان والجيش اللبناني والقوى السياسية؟
من طبيعة الاميركيين ان يمارسوا ضغوطاً لتنفيذ خريطة طريق مرسومة للمنطقة، لكن خصوم واشنطن من العهد وحزب الله وحلفائهما معروفة مواقفهم من السياسة الاميركية وما يمكن ان يطلب منهم. اما حلفاء واشنطن الحقيقيون فليسوا قادرين على التماهي مع رغباتهم. فقسم من الموالين لهم والمؤيدين لسياستهم هم خارج السلطة الفعلية، والباقون كالرئيس سعد الحريري والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية ليسوا في وارد تجاوز التركيبة الحالية التي تتحكم في إدارة الملف الداخلي. والحريري تحديداً ـــ وهو الاكثر قدرة على الامساك بمفتاح المواجهة كونه رئيساً للحكومة ـــ لا يعطي أي إشارة ولو بسيطة عن نيته التحول مجدداً عن المسار الحالي الذي اعتمده منذ التسوية الرئاسية، وتأليف الحكومة. وهذا يضعه حكماً في الخندق نفسه مع العهد والحزب وحلفائهما كشركاء في السلطة التي تريد منها واشنطن الكثير لتقدمه على طريق طرحها عناوين من دون آليات فعلية للعمل. وهذا هو التحدي الحقيقي أمام الحريري، إذ بات متعذراً عليه استخدام لغتين مختلفتين أمام كل من الغرب وشركاء الداخل.