في القاموس الأمني للدول، يأتي الردع ليعبّر عن مركّب من المركّبات الأمنية للدولة، ولعلّه المركّب الأكثر إلحاحاً لصونه مصالحها القومية العليا، هذا في المفهوم النظري.

أما في ميدان التطبيق، فقد تمايز أسلوب الردع بالعقاب عنه بالمنع، بحيث استند  الردع بالعقاب إلى مفهوم "الأضرار غير القابلة للتنفيذ" من خلال التهديد بالانتقام، غير أنّ الردع بالمنع يتمثل بوضع معوقات تحول دون تحقيق المعتدي لأهدافه.

تقوم رؤية الردع الاسرائيلية على مبدأ إبراز قدراتها العسكرية الردعية وإسقاطها مجتمعةً على وعي المستهدَف لدفعه إلى ضفة النأي بالنفس، إلا أنّها في الحالة اللبنانية منيت بفشل تدحرج الى حدّ اعتماد سياسة بديلة.

وبالحديث عن محددات هذا الفشل، فقد شكل انسحاب قوات العدو من لبنان عام 2000  أول مظاهر التصدع، لتليها حرب تموز 2006 وبعدها الرهان على ما لحق بالميدان السوري من طفرة "الربيع العربي".   

بالاستناد إلى ما سبق، بات واضحاً بما لا يدع مجالاً للشك وجود تحول طرأ على الطرح التقليدي لدى القيادة العسكرية يدعو إلى اعتماد سياسة منع "الأعداء" من الحصول على القدرات.

في هذا الإطار، يظهر تلازم مسارات قضائية وسياسية ينتهجه الإسرائيلي في سبيل تحقيق الهدف المشار إليه آنفاً.

في الشق القضائي، يأتي تفعيل الحرب الاقتصادية على إيران في سلّم أولويات الحلف الأميركي_الصهيوني_الخليجي، بالإضافة إلى عرقلة أي محاولات إيرانية للالتفاف على العقوبات المفروضة، الأمر موصول بضغط مكثّف على الدول الأوروبية من خلال اللوبيات الصهيونية المنتشرة لمنعها من التجاوب.

 وكانت الولايات المتحدة فرضت، منذ انسحابها من الاتفاق النووي، حزمتين من العقوبات ضد طهران: الأولى بدأ تنفيذها في آب 2018؛ والثانية، وهي الأشد، تمّ فرضها في تشرين الثاني من العام نفسه، وتناولت قطاع النفط والمصارف الإيرانية.

 بالمقابل، أسّست ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مؤخّراً أداةَ دعم الأنشطة التجارية (INSTEX)، وهي آلية يدعمها الاتّحاد الأوروبي وتهدف إلى تسهيل الالتزامات التجارية مع إيران من خلال مساعدة الشركات الأوروبية على تفادي العقوبات الأحادية الأمريكية المفروضة على إيران.

أضف إلى ما ورد، محاولات نتنياهو الاستعراضية في مجلس الأمن، إن كان لجهة تحديد مواقع تخزين مفترضة لصواريخ حزب الله أو لجهة عرض صور الأنفاق المكتشفة على الحدود مع لبنان بُعيد عملية "درع الشمال"، في محاولة منه لجعلها قضية رأي عام لبناني ودولي.

على الضفة السياسية، أعلنت بريطانيا مؤخراً اعتبار حزب الله بجناحيه السياسي والعسكري تنظيماً إرهابياً، الأمر الذي يوحي باتباع سياسة أكثر انسجاماً مع واشنطن تمهيداً لما بعد بريكست.

وفي سياق متصل، استضافت العاصمة البولندية، وارسو، قمة دولية في الـ13و 14 من الشهر الماضي، تحت مسمى المؤتمر الوزاري لتعزيز "السلام والأمن في الشرق الأوسط"، بحضور ممثّلين عن نحو ستين دولة، وذلك بعد مرور نحو شهر على دعوة أطلقها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في خطاب ألقاه في الجامعة الأميركية في القاهرة، لتنسيق الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة نشاطات إيران "المزعزعة للاستقرار" في منطقة الشرق الأوسط.

لم يخرج المؤتمر بقرارات مهمّة، اللّهم سوى توفير غطاء لتطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل بذريعة مواجهة تهديد مشترك تمثّله إيران وطمأنة البيت الأبيض لحلفائه بالتزامها أمنهم.

إنّ مقاطعة روسيا للمؤتمر يجزم برفض موسكو لطبيعته وظروف انعقاده مع ما تمثله المدينة البولندية من رمزية لجهة ارتهانها الكلّي لواشنطن وتبنّيها مشروعاً مغايراً لما تحاول أن ترسمه دول أوروبا الغربية، حيث تنظر تل ابيب إلى موسكو من زاوية الميدان السوري بالدرجة الأولى، فتسعى بذلك للتأثير والضغط على الحليف السوري في سبيل كبح جماح حزب الله ومنعه من الحصول على قدرات تصنيع الصواريخ بالإضافة إلى منع تمركز ايران العسكري في سورية.

تحاول القيادة العسكرية في تل ابيب التصدي لهذه المهام، معولةً على الفروقات الايديولوجية بين روسيا وكل من الأفرقاء في حلف المقاومة، الأمر الذي لا يغيب عن رؤية الحلف واستراتيجيات المواجهة لديه، من خلال تصريحات كل من قادة المقاومة في طهران وبيروت لجهة الاستعداد الدائم لأي شكل من أشكال المواجهة مع العدو مستقبلاً.

 

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع