لم يعد مصطلح الحرب الناعمة مستهجنًا كما في بداية اعتماده للتعبير عن العمليات الثقافية والتسويقية التي تستهدف محور المقاومة في كل بلاد المحور، والتي تتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي ومن الاعلام ساحات لها. ففي البدء، اعتبر الكثيرون أن المصطلح مبالغ فيه وأن لا علاقة لهذه العمليات بأي برنامج أو نهج مدروس من السفارات ووكلائها المحليين. لكن بداية قبوله والتعامل معه كحقيقة مؤثرة في الساحات الافتراضية لا تعني بالضرورة أنّنا نعي حقيقة هذه الحرب وأدواتها. لذا يكتفي البعض بتعريف الحرب الناعمة وكأنها مجرد "لعبة افتراضية" لا يمكن أن تسفر عن إصابات وخسائر حقيقية. أو يتصور البعض الآخر أن المسألة تنحصر في المجموعات الصهيونية (من كافة الجنسيات) التي تحاول تجنيد العملاء أو تسويق مفاهيم تطبيعية.
بطبيعة الأحوال، لا يكفي مقال للبحث في مفهوم الحرب الناعمة، ادواتها ومداها واهدافها والفئات المستهدفة والأساليب المتبعة في الاستهداف. إلا أنه يمكن لنا ايضاح او على الاقل طرح بعض علامات الاستفهام أمام المشككين بوجود "الحرب الناعمة"!
في بيئة المقاومة في لبنان، تتفاوت درجات الوعي كما في كل منظومة اجتماعية. إلا أنه يمكننا القول، وبمباهاة، أن هذه البيئة تمكنت بفضل المنظومة القيمية والوعي الوطني من تجاوز عدة مطبّات في التفاعل مع البيئة المعادية للمقاومة. على الأقل يمكن أن نقول إن هذه البيئة لم تسقط في فخ الاستفزاز المتعمد الذي تكرّر في مناسبات عديدة، وهو أمر يُحسب لها. إلا أن التعامل مع المواقع الافتراضية وكأنها جزء منفصل تمامًا عن حياتنا في الواقع هو امر يدعو إلى طرح سؤال شائك: هل حقًا ينفصل هذا الكوكب المجازي عن كوكب الأرض؟ وهل نكون متهمين بعقدة المؤامرة إن قلنا إن المعارك الافتراضية التي نشهدها كل يوم، وبمسميات وعناوين مختلفة، ما هي الا جزء من الحرب الناعمة التي نلامس مفاعيلها على أرض يومياتنا، في كل يوم وعند كل محطة؟
قد يظن البعض أن المدعو "افيخاي ادرعي" هو الصهيوني الوحيد تقريبا الذي يتولى الهجوم على بيئة المقاومة، بزيّه العسكري وكلامه المستفز الواضح الخلفيات. ولا مفاضلة بينه وبين آخرين يتساوون معه في التصهين ويتشاركون معه الأفكار والطروحات وأحيانًا المنشورات، إلا أنهم قد يكونون أشد خطرًا منه في التصويب على المقاومة وبيئتها، كونه واضح الانتماء ومباشر العدائية، وكونهم يتزيّون بأزيائنا ويتحدثون بلهجاتنا، ويعادوننا من حيث لا يمكن أن نتوقّع، أو من حيث قد ينخدع البعض بهم. وما آخر الموجات الموجهة حصرا ضد بيئة المقاومة إلا مثالا حيًّا على الحرب الناعمة بأدوات محلية.
بكلام آخر، تشكّل المنظومة القيمية الارض الصلبة التي تأسست عليها المقاومة كفكرة وكعمل مسلّح "نظيف" وكاستراتيجية بعيدة المدى. يدرك الغرب، ممثلا بسفاراته، أن ضرب وتوهين هذه المنظومة القيمية خطوة اساسية لضرب المقاومة على المدى البعيد. وقد استخدمت هذه السفارات كل ما يمكنها استخدامه، وكل من يمكنها استخدامه في سبيل هذا الهدف. تحوّل صلب بعض نشرات الأخبار إلى صياغات تعبوية ضد القيم التي جعلت من المقاومة حالة تحررية عابرة للحدود التي وضعها الغرب، حتى وان كانت مقدمات تلك النشرات تنظم الشعر في حب المقاومة والثناء على انجازاتها. ومن ضمن هذه القيم، تتعرض فكرة العائلة إلى قصف يومي مركز من قبل هذا الاعلام. وهي ليست صدفة او مجرد ابتذال يهدف الى رفع نسب المشاهدة بقدر ما هو اسفاف يضرب المفاهيم التربوية والتثقيفية التي نربي عليها  أبناءنا وبناتنا.
في الإطار نفسه، نشهد ما يمكن تسميته "تهشيم" نموذج الأم المربية، وعلى سبيل تسمية الاشياء بأسمائها، ليست مصادفة تسليط الضوء على قضايا ونزاعات تخوضها أمهات داخل أروقة المحاكم الجعفرية بشكل خاص، والتي لا مجال هنا لمناقشة مظلوميتهن من عدمها فلكل منهن حالة خاصة، وكثيراتٌ منهن مظلومات من قبَل بعض قضاة الشرع، واعتبار ان سائر المحاكم الشرعية والروحية تخلو تماما من قضايا مماثلة هو نوع من كسر نموذج الام المقاومة في بيئتها وإظهار نموذج الأم المكسورة والتي تكسرها البيئة نفسها. أليس غريبًا تشويه "صورة الأم" عبر تعويم النموذج الواهن والمفكك والذي يحتاج فعلا الى دعم بعيدا عن الاعلام ووسائل التواصل، وتغييب نموذج الأم البطلة الذي نراه في غالبية أمهاتنا؟ أليس مستغربا ان تكون الأم النموذج المقاوم هدفاً تحاول تهشيمه الأقلام المغمسة بالشاي بالياسمين في أروقة سفارة بني سعود؟
وفي السياق ذاته، يمكن ادراج الف قضية أُثيرت بشكل يدعو إلى الاستغراب ولا يمكن رؤيتها إلا كجزء من الحرب الناعمة التي تستهدف بيئتنا، وبالتالي تستهدف مقاومتنا. ولا يتسع المجال هنا لذكرها جميعها إلا أن قليلا من التريث قبل المضيّ خلف الشعارات التي تبدو بظاهرها محقة وخلف القضايا التي قد تكون فيها مظلومية ما والتي ندري أن حلها ليس بتصويرها وكأنها حالات شائعة أو ظاهرة تستدعي التمترس للتصويب على أنفسنا، ولجلد ذاتنا وقيمنا، هذه القيم التي جعلت منّا "أشرف الناس".

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع