نقولا ناصيف – الأخبار
يكاد لا يمضي يوم من دون أن يُكشف عن فضيحة، أو فساد، أو إهدار مال عام، أو اختلاس، في أي مكان في الدولة اللبنانية وإداراتها. كأن جبل الارتكاب وُجد فجأة. أسوأ ما يجري، أن الموظفين المرتكبين يبدون كأنهم مقطوعون من شجرة
ما يُفصَح عنه يومياً من تسيُّب أعمال الرشى والاختلاس والتزوير والغش وإهدار المال العام، لا يزال يطاول موظفين فحسب. يُكتفى بقاعدة هرم الفساد وحدها. بذلك تراوح حملة مكافحته مكانها بلا أدنى تقدّم ملموس، سوى مراكمة الفضائح. تقتصر على اكتشاف المتورّطين الصغار، من دون أي صدمة جدية وحقيقية يفترض أن تختبر صدقية ما يقول به المسؤولون، وهو أنهم رفعوا الغطاء عن كل مرتكب. شأن عشرات المرتكبين الصغار، يصعد بهم هرم الفساد إلى المرتكبين الكبار.
طاول كشف الفضائح القضاء بالذات، بعد تورط مساعدين قضائيين، أضف محامين، في أعمال رشى وتزوير وتلاعب، فإذا الشبهة تدق بدورها ابواب السلطة القضائية أيضاً، مرجع الاحتكام. ليس الأمر أقل أهمية في الكلام عن أن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء اسم من غير مسمّى، وإن عيّن في 6 آذار النواب السبعة الأعضاء فيه، في ظل استمرار الاجتهاد الذي أخذ به منذ عام 2002، وكرّسه عامي 2004 و2005 بحصر محاكمة الرؤساء والوزراء أمامه. تالياً، نزع الاختصاص من القضاء العادي. بل لا يُعثر على مسؤول فاسد يُحال إليه.
حتى عشية انتخاب أعضاء المجلس الأعلى، وتسلّم البرلمان لائحة بالقضاة الثمانية، أعضائه الآخرين، ظُنّ أن هذا الاستحقاق يُمهد الطريق لالتئامه، وإن لمرة واحدة منذ إنشائه عام 1990، هو المنصوص عليه منذ صدور الدستور اللبناني عام 1926، قرابة أقل من سبعة عقود. ها هو على أبواب انطواء العقد الثالث من غير أن يجتمع ويكتشف مسؤولاً مرتكباً. انتهى الأمر عند حدّ اكتمال بنية المجلس الأعلى شأن ما درج، منذ عام 1990. إلى الآن ليس ثمة أي تفكير داخل البرلمان في مقاربة حقيقية لدور المجلس الأعلى، وإخراجه من العقبة التي تمنعه من محاكمة أي رئيس أو وزير مرتكب. الواضح أن من المستحيل الوصول إلى رئيس أو وزير مرتكب.
لعل المشكلة الفعلية في المجلس الأعلى، كي يتحرّك، أن عليه انتظار «توافق» مجلس النواب على العثور على متهم، ومن ثم «التوافق» على محاكمته.
مكمن العقبة هذه، في أن الحائل الرئيسي دون التئام المجلس الأعلى هو البرلمان نظراً إلى أن الاتهام يتطلب نصاباً موصوفاً هو ثلثا أعضاء مجلس النواب (86 نائباً)، يوافقون على اتهام الشخص المرتكب، كي يُحال من ثم إلى المجلس الأعلى ويحاكم أمامه. ما بات يعنيه هذا النصاب أن تكوّن ثلثي النواب من حول قرار اتهام يتطلّب حتماً توافقاً الذي يعني بدوره تسوية سياسية، الأمر الذي يناقض تماماً فكرة محاسبة مرتكب ومحاكمته. فكيف عندما يكون نصف أعضاء المجلس الأعلى من نواب منتمين إلى كتل رئيسية، بات تأليف أي حكومة جديدة يشترط – وفي الغالب يلزم – تمثّلها فيها. ناهيك بأن الوصول إلى التصويت على الثلثين يسبقه وضع عريضة بخُمس نواب المجلس على الأقل (36 نائباً)، كي يصير إلى الموافقة على عرض الأمر على الهيئة العامة.
هل مَن يتذكّر القسم الدستوري للحود: يد السارق ستُقطع؟
بذلك يكون البرلمان صاحب الكلمة الفصل في الاتهام، وشق الطريق إلى انعقاد المجلس الأعلى. يعني ذلك أيضاً أن المجلس الأعلى لا يسعه التحرّك والادعاء من تلقائه، ويقتضي انتظاره الإذن من السلطة الاشتراعية، على نحو مطابق للمجلس الدستوري الذي لا يسعه الطعن في أي قانون ما لم يتبلغ إحالة به.
في 10 كانون الثاني 1998، وافقت اللجنة النيابية للإدارة والعدل برئاسة النائب شاكر أبو سليمان على توصية رفعتها إلى الحكومة، طالبت بإعادة النظر في الآلية المعتمدة في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء «كي يصير إلى جعلها قابلة للتنفيذ». ذكرت التوصية أن الآلية المحددة في القانون 13 الصادر في 18 آب 1990 «غير قابلة للتنفيذ لجهة آلية الإحالة إلى المحكمة المختصة، وتعقيد المعاملات المطلوبة لتأليف لجنة التحقيق النيابية». على أن التوصية ذهبت سدى.
بعد أشهر قليلة على انتخاب الرئيس إميل لحود، فُتح ملف مكافحة الفساد وإهدار المال العام عام 1999، على نحو أشعر اللبنانيين بأن ثمة حملة متكاملة واضحة الأهداف، إذا كان لا بد من تذكر خطاب القسم للرئيس السابق يوم قال: «يد السارق ستُقطع». أول رؤوسها الوزير السابق للنفط شاهي برصوميان. في خطوة رمت إلى تحقيق أهداف توصية لجنة الإدارة والعدل، من غير أن يصير إلى مناقشة هذه أو إقرارها في مجلس النواب، أخذت محكمة التمييز الجزائية في 24 آذار 1999 على عاتقها تجاوز العقبة تلك – ما دام يتعذّر اضطلاع المجلس الأعلى بدوره – بأن أعلنت صلاحية القضاء العادي ملاحقة الوزير السابق. بدورها، الهيئة الاتهامية في بيروت استبقت محكمة التمييز بأن أكدت في قرار أصدرته في 12 آذار 1999، صلاحية القضاء العادي في ملاحقة برصوميان، إذ اعتبرت الأفعال الملاحق بها (التزوير والاختلاس والغش)، في أثناء توليه الوظيفة، «جرائم شخصية عادية» تقضي بملاحقته أمام القضاء العدلي، لكونها «تخرج عن مهماته الوزارية، ولا تفرضها أعماله الوزارية»، ما جعل الهيئة تحسب الجرائم المتهم بها لا تطابق «الإخلال بالواجبات المترتبة عليه»، تبعاً للمادة 70 من الدستور التي تحتم محاكمة الرئيس والوزير المرتكب أمام مجلس النواب.
على طرف نقيض مما قالته الهيئة الاتهامية ومن بعدها محكمة التمييز، كانت ثمة حال مناقضة تماماً وإن لجرم مماثل، هو اتهام الوزير السابق جميل كبي، في عهد الرئيس الياس هراوي، باختلاس أموال عامة في وزارة الصحة إبان توليه في حكومة الرئيس عمر كرامي (1990 – 1992) حقيبتها. إلا أن المدعي العام المالي أحمد تقي الدين، ارتأى حينذاك، في قراره في 16 كانون الثاني 1996، عدم صلاحية ملاحقته، وحصر المهمة بالمجلس الأعلى، لكون جرائم الوظيفة في نظره إذا ارتكبها الوزير تخضع لأحكام المادة 70 من الدستور.
على الدوام ارتبط إطلاق حملات مكافحة الفساد وضمورها بموازين القوى السياسية القائمة في أوانها. عندما خسر لحود الانتخابات النيابية عام 2000، وعاد الرئيس رفيق الحريري إلى السرايا، اتخذت محكمة الجنايات في 16 كانون الأول 2002 قراراً معاكساً لقراري عام 1999، بأن قالت بعدم صلاحية القضاء العادي النظر في ملاحقة الرؤساء والوزراء.
مذذاك أضحت الصلاحية في يد مجلس النواب بنصابه الموصوف، كي يدلّ بدوره على أن لا فاسدين أو مرتكبين إلا صغار القوم.