تحكي فلسطين حكاياتها بلغة الشهداء. الشهداء وحدهم لهجتها وهويتها، وهواها. تطرّز ثوبها بخيوط ضحكاتهم، وبصوف الدمع تحيك لأكتاف الذاهبين من الحرية إلى الحرية شالًا وضمّة. تخاطبهم، ولا يموت الشهداء، كلّ باسمه. "سبع يُمّا!". وكل ضجيج ولغو تحت مسمّى التسويات والتنسيق يبقى عبريًا وان بدا للجهلة عربيًا بلكنة فلسطينية.
كانت ليلة صعبة.. ما كان سهلًا على قلوب الهوى الفلسطيني عجزها عن الالتفاف درعًا حول صدر الفدائي المطارد المشتبك الشهيد، وما كان سهلا على العيون التي فلسطين محط سجودها عجزها أن ترتمي حجارة في أرض الضفة وترجم "قوات النخبة"، فتطبع على أيدي الأحرار قبلة. ما كان سهلا أن نتابع، نبضة تلو نبضة، ليلة الشهداء!
حل العتم وخبر الاشتباك مسبحة في أيدٍ ترجو الليل أن يخفي عمر أبو ليلى، بطل عملية سلفيت، عن أعين الخونة والظالمين. تضاربت الأنباء. عاجل يؤكد وآخر ينفي، فيما يصغي القلب لصوت الرصاص الآتي من البعيد، من حضن فلسطين، ويصم أذنيه عن كل ما يصدر عن وكالات الصحافة العبرية ووكلائها.. الف الف نبض كان يعلو فوق ضجيج الاخبار، ويذهب مدججا بالأمل نحو المعركة.
دقائق ثقيلة استقرت كأحجار في الحناجر، أحجار لن تنال شرف أن ترفعها قبضة مقاتل تؤذن في الدنيا أن حيّ على الحريّة.. استشهد عمر ابو ليلى، سمعنا آخر نبضة في مآذن الضفة التي بالتكبير زفّته شهيدًا.. وسمعناه في غضب الأحرار الذين خرجوا للدهس حتى كدنا نقول إن روحه انتقلت إلى جسد آخر كي تكمل ما بدأت، لولا اليقين أن فلسطين ولادة أحرار فدائيين، ولو لم نلمحه محلّقًا نحو باسل الاعرج، واحمد نصر جرار، وأشرف نعالوه وجيش من الشهداء الذين سكنوا قلوبنا ومنها ارتفعوا إلى السماء.
لم يتأخر زيد نوري، شقيق الاستشهادي سامر نوري، عن الالتحاق بعمر، وبأخيه بفارق خمسة عشر عامًا عن اخيه.. إلى جانب رائد حمدان، والكتف على الكتف، ارتحل زيد وهناك أخبروا عمر عن ليلة عرسه في فلسطين، عن لحظات الاشتباك التي انتشرت في شرايين عشاق الارض كما لو أن صوت الرصاص البطل مرّ برهة بشراييننا لنعبر نحو فلسطين، ليلة، ونتحسس بدمنا وجه الكرامة والإباء..
يا عمر، أيها الحبق الذي ما بلغ العشرين من عطره، لو تعلم كم روحاً ارتمت عند بندقيتك ترجوها أن لا تنفد من الرصاص، وكم سجادة صلاة امتدت لتعبر بالدعاء نحو زنادك وترمي.. يا أيها المطارد الذي مرّ في عيوننا وما لبث أن لقن كل العيون درسًا في معنى الرجولة التي من فطرة وعشق.. يا أيها المشتبك الذي لا بد ابتسم لعيوننا قبيل الرصاصة الأخيرة، وحاول بالبسمة ان يخفف عنا وطأة العجز.. دعك من عجز كلماتنا، نحن المثقلين بترتيب سنواتنا في حقائب اغترابنا، فلديك الآن متسع من الوقت ومن السماء كي تستريح، وتشاهد كيف دمك في ألف روح ينمو..
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع