هيام القصيفي – الأخبار
منذ صدور القرار 1559، في الثاني من أيلول عام 2004، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها الدول الغربية، عملياً، انتهاء شهور العسل الأميركية والأوروبية مع سوريا التي استمرّت من عام 1990 حتى الأشهر التي شهدت إعداد القرار. العودة إلى روزنامة الأحداث التصاعدية، تذكّر بسعي الأميركيين تدريجاً إلى تأكيد «إطلالاتهم» على الجو السياسي المعارض لسوريا – وحزب الله – في صورة غير مباشرة، منذ أن بدأ يتكوّن بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، من دون الذهاب بعيداً في تجميع هذه القوى وتأليبها ضدّ سوريا أو السلطة القائمة. نداء المطارنة الموارنة ومن ثم تشكيل قرنة شهوان، وتصاعد الخطاب السياسي ضد الوجود السوري في لبنان، واستقالة الرئيس رفيق الحريري والتمديد للرئيس إميل لحود، كلها عوامل بدأت تفرض نفسها على الواقع السياسي، ومعها الحضور الاميركي مجدّداً في لبنان، بعد سنوات من التعايش الدولي مع الوجود السوري وتسليم دمشق مفاتيح لبنان.
استفاق الأميركيون على الطائف، وطالبوا باحترام الدستور وسيادة لبنان واستقلاله، وبدأت منذ ذلك الحين عملية استعادة الحضور الأميركي الفعليّ إلى جانب القوى المعارضة لسوريا، قبل أن تتحول لاحقاً إلى قوى معارضة لحزب الله. باشر الأميركيون دغدغة شعور القوى السياسية المسيحية التي وقفت ضد الوجود السوري قبل أن تلتحق بها شخصيات مسلمة بعد اغتيال الحريري. غضّ الأميركيون طوال المرحلة السورية البصر عن كل نداءات بكركي، حتى أنهم رفضوا استقبال البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في عزّ مواجهته السلطة القائمة حينها، والنظام السوري. تدريجاً، ومع حرب العراق والمتغيّرات في المنطقة، تبدّل المشهد الأميركي، وبدأت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش تعطي تطمينات لمعارضي سوريا، فجمعتهم حول فكرة القرار الدولي 1559، قبل أن تتطوّر الأمور مع اغتيال الحريري، إلى أداء سياسي حاضن لقوى 14 آذار.
بعد عام 2005، ومع اغتيال الحريري صار الدور الأميركي أكثر حضوراً. لا يعود الفضل للأميركيين بتظاهرة 14 آذار، بحسب بعض الشخصيات التي لا تزال تردّد أن السفير الأميركي جيفيري فيلتمان نصحها بعدم التظاهر والنزول إلى الشارع. لكنّ هذا الجو تنفيه بعض الوقائع التي أظهرت أن الأميركيين الذين سبق أن حضروا قاعدة سياسية واسعة، كانوا على تفاعل لحظة بلحظة مع مجريات الأحداث. تصريحات فيلتمان وبيانات الخارجية الأميركية، عزّزت الجو التصاعديّ لما كان يجري في بيروت وسلّطت الضوء مجدّداً على الساحة اللبنانية التي كادت تنفجر بفعل تطوّرات سياسية وأمنية متتالية.
لم يبخل الأميركيون بإشهار علنيّ واضح، ودعمهم للقوى المناهضة لسوريا، لا بل إن حثّهم القويّ جعل 14 آذار أكثر زخماً وفاعلية. وكانوا فاعلين بقوة، حضوراً ولقاءات واتصالات وبيانات دعم متتالية، وتجييش دعم غربي وعربي كبيرَين، لحلفائهم في لبنان. بين 2005 و2019، تسلّم العمل الدبلوماسي في لبنان خمسة سفراء: جيفيري فيلتمان، وميشيل سيسون ومورا كونيللي وديفيد هيل والسفيرة الحالية اليزابيت ريشارد. قد يكون فيلتمان الذي عُيّن عام 2004 الاسم الأكثر تداولاً بين السفراء، نتيحة مرافقته مرحلة 2005، ومن ثمّ هيل لمعرفتهما الطويلة بلبنان. لكن لا يمكن القفز فوق دبلوماسية فنسنت باتل، الصارم بمواقفه، وهو الذي رافق التحضير لمرحلة 1559 وما تلاها، قبل تسلّم فيلتمان مهامه. صحيح أن الأخير عُرِف بالكثير من المواقف المؤيّدة لـ«ثورة الأرز» وتضامنه معها وتنظيمه لقاءات دورية مع أركانها، وصولاً إلى تبادل الرسائل الهاتفية والنكات عن كل شاردة وواردة، لكنّ السفيرة سيسون، كانت الأكثر حدّة، وعُرِفت بأنها أيضاً أشرس المعارضين لسوريا وحزب الله. واقع أنها كانت في فترة انتقالية بين إدارتَين أميركيَّتين، أي جورج بوش وباراك أوباما، جعلها في موقع حسّاس. إلا أنّها ظلّت تعمل وكأنّها استمرار للمرحلة السابقة، ما جعل تصريحاتها تلاقي ردود فعل غاضبة من قوى 8 آذار. لم يكن دعم السفراء الأميركيين لقوى 14 آذار دعماً خفيّاً. هيل بنفسه قال خلال تولّيه منصبه إن «الولايات المتحدة والقوى الممثلة في 14 آذار تتشارك الكثير من القيم والكثير من الاهتمامات، ليس أقلّها الرغبة في دعم الممارسات الدستورية في لبنان والمؤسّسات والتقاليد الديمقراطية وتطبيق اتفاق الطائف». وغالباً ما كانت تشهد السفارة الأميركية لقاءات ومآدب تجمَع شخصيات هذه القوى مع الموفدين الأميركيين من مستوى رفيع.
بعد خروج الجيش السوري من لبنان وتطوّر الأوضاع الداخلية بفعل إعادة تموضع القوى السياسية وانقسامها بين قوى 8 و14 آذار، لم تُخفِ واشنطن رفضها لحزب الله، وهذا من أحد الثوابت المستمرّة حتى الآن في سياستها تجاه لبنان. ويُفترض القول إن هذا الدعم لم يكن مطلقاً، فقد شهدت العلاقة تأرجحاً، بفعل مصالح الولايات المتحدة. دعمت واشنطن اتفاق الدوحة، وصرفت النظر عن لقاءات قوى مسيحيّة مع حزب الله قبل خروج الجيش السوري وبعده. لكنّ الثابتة الوحيدة أنها ظلّت على رفضها لحزب الله. من دون أن ننسى مرحلة عام 2006 والحرب الإسرائيلية على لبنان وتفاعلاتها، وما حصل دولياً لإصدار القرار 1701 وتشكيل المحكمة الدولية. بدّل الأميركيّون لهجتهم ونوعيّة لقاءاتهم، حتى أنهم عادوا إلى بكركي، واستقبلوا البطريرك الماروني بصفته مطالباً بالسيادة والاستقلال ورفض الوجود السوري. لكنّ مشكلتهم مع حلفائهم الذين احتضنوهم، أنهم هم الذين انقسموا على أنفسهم، وتفرّقوا، ولم تكن تلك مشكلة الأميركيين الذين أعطوا لهذه القوى ما حلمت به منذ التسعينات. شهد الأميركيون تفرّق شخصيات لقاء قرنة شهوان واندثاره، وتباين القوات اللبنانية والكتائب، وخلاف المستقبل والقوات، وتراجع حزب الكتائب، وصعود التيار الوطني الحر وتفاهمه مع حزب الله، ثم تفاهم التيار والقوات وتسوية انتخاب العماد ميشال عون رئيساً، وشهدوا خلاف جنبلاط والحريري وابتعاد صقور 14 آذار عن الواجهة. انقسامات حلفائهم اللبنانيين وطموحات بعضهم وشخصانية البعض الآخر، جعلت الدعم الأميركي لسنوات يذهب هباء. ما حصل في الدوحة والتسوية الرئاسية بانتخاب عون، برهان على كثير من المآخذ التي سجّلتها واشنطن على حلفائها. والأهم ما حصل في لقاءات السين – السين وانتخابات عام 2009 وتبدّل موقف الحريري من قوى 8 آذار نتيجة الضغط السعودي لتشكيل حكومة اتحاد وطني، كلّها أمور شكّلت نقطة التحوّل الأميركي، وتراجع واشنطن إلى موقع بدا أشبه بموقع «المراقب» لأداء حلفائها.
الأكيد أن ثمة ثوابت في علاقة واشنطن بمجموعات وأحزاب وشخصيات. منها من كان صديقاً أكثر منه حليفاً كرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، قبل أن ينضمّ الرئيس سعد الحريري أيضاً إلى «نادي الثوابت». لكنّ أداء هذه الشخصيات ظلّ على تفاوت. راقب الأميركيون سياسيين ينتقلون من خطّ إلى آخر بتبريرات يرونها واهية، وشهدوا على تموضع سياسيّ لا يشبه الماضي القريب الذي تشاركوا فيه مع حلفائهم منذ عام 2005 وإلى ما بعد عهد الرئيس ميشال سليمان. ثابتتهم أنهم ضدّ حزب الله، لكن فكرتهم أنهم لم يجعلوا البلد ككل يدفع الثمن. وقفوا إلى جانب رئاسة الجمهورية والجيش الذي دعموه رغم ملاحظاتهم على علاقته بحزب الله، والقطاع المصرفي، ولم يقبلوا هزّ الاستقرار. لذلك ألف سبب وسبب، أميركي الطابع، لكن النتيجة واحدة. وهم في المقابل لم يلمسوا جدية من حلفائهم الذين يأخذون عليهم براغماتيتهم وتركهم في منتصف الطريق كلّما استدعت الحاجة تفاهماً مع إيران أو سوريا أو أيّ دولة أخرى. يأخذ حلفاء واشنطن عليها أنها غلّبت مصالح سياسية داخلية، عوّمت الحريري على حساب حلفاء آخرين، ولو أخطأ مراراً. ساندت أحزاباً مسيحية على حساب شخصيات مستقلّة، ولو أن هذه الأحزاب لم تفعّل علاقتها بواشنطن ولم تنسج مع الإدارات المتعاقبة خيوطاً قوية. تعاملت مع شخصيات من الصف الثاني والثالث من طوائف عدة من دون صدقية، الأمر الذي انعكس سلباً على الأداء السياسي لهذه القوى.
ثمة من يقول إن الجهاز الدبلوماسي في السفارة ظلّ أقرب إلى 14 آذار من هذه الشخصيات نفسها، وتمكّن من دوزنة الإيقاع الأميركي رغم المتغيّرات للوقوف إلى جانب هذه القوى التي حصلت على ما لم يحصل عليه طرف آخر. جاء وزراء الخارجية الأميركية تباعاً إلى بيروت، وكلّهم وقفوا إلى جانب 14 آذار، وأيّدوا الشعارات التي رفعتها، وإن بتفاوت. الأكيد أن قوة ما قامت به زيارة كوندوليزا رايس، ولقاءاتها مع شخصيات 14 آذار، لا تُقارن بتوجّهات زيارتَي جون كيري وريكس تيلرسون، لكنّ الموفدين الأميركيين منذ أن انتهت مفاعيل مرحلة 14 آذار، حافظوا على الوتيرة نفسها ولم تتراجع توجهاتهم.
من تخلّى عن من في طريق التسويات؟ الأميركيون الذين يقدّمون مصالحهم الاستراتيجية، أم القوى السياسية التي غلّبت مصالحها الخاصة على ما عداها؟ الإجابة قد تكون إيجابية لصالح الأميركيين. يكفي أنهم أعدّوا القرارات الدولية 1559 و1701 والمحكمة الدولية، التي تحوّلت إلى مظلّة أساسية لا تزال تتحكّم بالبلد… في الكفّة الأخرى من ميزان الشراكة، انتهت «14 آذار»، أو… هي أنهت نفسها.