لعيد الأم خصوصية تتشاركها كل البيوت، حتى تلك التي خلت من أمّهاتها. هو اليوم الذي نحتفي فيه بالأمومة، بهذه النعمة التي تتجاوز فكرة الإنجاب، بل لا تشترطها.
يمر اليوم ثقيلا على الأبناء الذين لن يحظوا بأيدي أمهاتهم يطبعون عليها قبلة، والذين لن يسمعوا صوت الرضا من خلف رخام يضعون عليه ذاكرة ووردة.. ويمر أثقل على قلوب الأمهات اللواتي في كل يوم يتحسسن افتقادهن المكلل بالصبر، لضحكات ابنائهن وقد أصبحوا شهداء.. لغصّتهنّ، للبسمة الموشحة بالدمع الحبيس، لوجع تنهيداتهن أمام الأضرحة التي خلفها وضعن قلوبهن بأجمل ما يمكن للأمومة أن تكون، لعيونهن التي تحتضن صوراً ولضلوعهن التي تحتوي عطر الضمات الأخيرة وذاكرة الخطوة الأولى، وخبر الاستشهاد، كل الحب الذي من خجل وامتنان.. أنتن صانعات النصر الذي حفظ أمومتنا، وصان أطفالنا، ومنحنا نعمة أن نضم في كل ليلة عيون أولادنا ونحظى بأصواتهم تملأ أيامنا.
نجول في عيونهن سرًّا. نشرب من حكايات أمومهتن ما يجعلنا ندرك أن كل صعوبة نواجهها كأمهات هي حتمًا لا تقارن بما يمرّ بهن من وجع لا سيّما في يوم الأم. هؤلاء القديسات المتشحات بالعزّ، والمكللات بلقب "أم الشهيد" لسن بحاجة إلى مواساة من أي نوع كانت. فأبناؤهن ما زالوا معهن بشكل نعجز نحن الناس العاديين عن ادراكه. لا يظهرن دمعهن أمام العيون بل يواسين عائلاتهن حين المصاب وبعده، حتى تكاد تشعر أنهن جبال من عاطفة، لا يزيدها عطش الشوق إلا صلابة، وإباء.
في هذا اليوم أيضا، يخال إلينا أن صور الشهداء تنطق بالبسمات امتنانا للكفوف المتعبة التي ربتهم على نهج المقاومة، يرجون العيون التي رافقتهم ونذرت لرؤيتهم "عرسانًا" ألف عمر.. وأوفت نذرها زغاريد ذات وداع، أو ذات خبر عن شهيد مفقود الأثر!
في الأيام القليلة الماضية طالعنا على صفحات التواصل حكاية أم شهيد اختصرت حكايات هذا الجمع المقدس من الصابرات. حكاية سيدة عالية مقاوِمة قررت أن تهدي "بدلة تخرّج" شهيدها والتي كان ينوي ارتدائها في عرسه، إلى صديقه كي يخرج بها عريسًا.. يحتبسنا الدمع أسرى في كنف هذا الإباء، وهذا العشق الذي رفع روحها، وأرواح الصابرات مثلها، إلى علو يشابه السماء.. وطالعنا حكاية الأم التي لم تنجب الشهيد ولكنها ربته بعد وفاة أمه، حكاية تعلّقها بسيارته التي كان يحبها، وكيف قررت أن تبيعها وتهدي باسمه ثمنها لدعم المقاومة..
بأي لغة نخاطب فيض الأمومة هذا، وكل ما فينا عتمٌ لا يجد الضوء إلا في ظلال الاسود وقد لبسوه عزًّا واحتسابًا.. بأي دمع نواجه بسماتهن الشاهقة، وهنّ يطلبن من الحاضرين أن لا يبكوا الشهيد.. بأي الكلمات نصفهنّ، وننصفهنّ، وقد شقّ قلوبهنّ فراق اختاره ابناؤهن دفاعًا عن أرضنا وعرضنا جميعًا.. كيف يمكن أن نقف أمامهن ونتحدث إليهن ونحن نلمح في أصواتهن صدى الحِداء الذي ما زلن يرددنه لشهدائهن كلّما تذكرنهم ذات ضمة قبل المهد، وكيف لا نحدق في تجاعيد أيديهن التي تفوح عند موعد المائدة برائحة الطعام المفضل الذي كان حين دلال يطلبه الشهيد..
وبعد، كيف يمكن أن ننسى الصابرة الحاجة أم عماد، التي سقتنا من نزف قلبها انتصارات وعزّاً؟ هل يمكن أن تمر كلمة الأم ولا تتراءى لنا ابتسامتها المتعبة ذات شرود في صورة الحفيد الشهيد.. أي ورد يكفي لإخفاء تلعثم النبض في حضرة حكايتها، هي التي كانت تسرع إلى بيت كل شهيد لتواسي عائلته وتؤنسها ببسمة العزّ الجميل؟
هو يوم عيد الأمهات، الأمهات اللّواتي تكفيهنّ الفطرة النقيّة ليرسمن خارطة التضحية على اتساع قلوبهن وحياتنا، التي إن ضاقت مدى، وإن اتسعت حوت زغاريد قلب في عرس الشهادة.. كلّ عام وأنتنّ خابية المقاومة والشرف.. كل عام وصبركنّ راية على جبل الأمومة، والحب.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع