قامت ما تسمى اليوم المملكة العربية السعودية، أرض الحجاز سابقاً، على جناحين، ديني متمثل بمحمد بن عبد الوهاب والذي نسب إليه المذهب الوهابي، والجناح السياسي المتمثل بملوك بني سعود الذين ارتكبوا المجازر من أجل إقامة مملكتهم المزعومة. هذا التوازن استمر سنواتٍ طوالاً وبدأ يختل في العقد الأخير لمصلحة الجناح السياسي الذي أصبح الأول طوع بنانه وينفذ ما يريده. كيف يتجلى التناقض في الجناحين الديني والسياسي؟ وكيف يقضي الجناح السياسي على الديني؟ وكيف سيؤدي هذا لانهيار المملكة؟
تمتّعُ وعّاظ سلاطين المملكة بنفوذٍ كبيرٍ في المملكة كان بدايةً يضاهي النفوذ السياسي، حيث حاول الملوك الأوائل كسب ودّهم والعمل دوماً وفق نصائحهم وفتاويهم، فاتخذت المملكة من الدين الإسلامي شعاراً وتشريعاً لكسب ودّ المجتمع السعودي المسلم وكذلك العالم الإسلامي، ومع مرور الوقت تحول وعّاظ السلاطين من تقويم حكم آل سعود إلى اتّباع الملوك لهم يفتون بما يريدونه، وقد أصبح ذلك واضحاً وجلياً اليوم من خلال تبدّل فتاوى وآراء كبار علماء السعودية لتجاري قرارات الأمير الشاب الذي يحلم باعتلاء العرش. ومن هنا لا بد الحديث عن بعض مظاهر التناقض لدى وعّاظ السلاطين اليوم.
هناك العديد من الشواهد التي يمكن الاستناد إليها في تبيان تناقض وعّاظ السلاطين في المملكة، ومن أجل عدم الإطالة في الحديث، سأكتفي بعرض شاهدين في قضيتين مختلفتين الأولى داخلية والثانية إقليمية، والاثنتان تابع تفاصيلهما العالم واهتمت بهما الصحف المحلية والعربية والعالمية.
الشاهد الأول: قيادة المرأة:
حيث كان ممنوعاً على المرأة السعودية قيادة سيارتها تذرعاً بأمورٍ اجتماعيةٍ ودينية، وبعد مدة وتماشياً مع إصلاحات الأمير اللاهث خلف المُلك، سُمح لها بقيادة السيارة، وبقدرة قادر تبدّلت الفتاوى والمواقف بين ليلةٍ وضحاها من الرفض نحو القبول. وهنا سنستعرض بشكلِ مباشر رأي المفتي العام للمملكة عبد العزيز آل الشيخ الذي قال في زمان المنع: "قيادة المرأة السيارة قد تفتح عليها أبواب شر ولا تنضبط أمورها، فالواجب والمطلوب منا ألا نُقرَّ هذا (أي قيادة المراة)"، ويتابع آل الشيخ قائلاً: "هذا أمرٌ خطيرٌ يُعرّضها للشرور؛ ولا سيما من ضعفاء البصائر الذين يتعلقون بالنساء، وربما سبب خروجها وحدها وذهابها إلى كل مكان من غير علم أهلها بها شرورٌ كثيرة، نسأل الله السلامة والعافية". أما بعد قرار السماح فقال: "حفظ الله خادم الحرمين الشريفين، الذي يتوخى مصلحة بلاده وشعبه فى ضوء ما تقرره الشريعة الإسلامية".
الشاهد الثاني: الحرب على سوريا:
وهنا الشواهد لا تعد ولا تحصى من الذين قد روجوا بدايةً للحرب على سوريا ودعوا إلى الجهاد والقتال ضد الرئيس السوري بشار الأسد. وبعد فشل المملكة بتحقيق أي انتصارٍ فيها ومن أجل غسل اليدين من الدماء السورية، أعلن ابن سلمان أن السعودية تتبنى الإسلام المعتدل وتنبذ الإسلام المتطرف، فغيّر الدعاة آراءهم ومنهم الداعية عائض القرني، الذي في بداية الأحداث السورية قال: "يجب على السوريين أن يحملوا السلاح ويقاتلوا به بشار الأسد الذي قتله الآن أوجب من قتال إسرائيل، حتى لو لم يجدوا سوى الحجارة يجب إنهاءه لأن هذا أصبح الآن واجباً شرعياً نصت عليه الأدلة الشرعية". أما بعد القرار فقد تنصل من أقواله السابقة قائلاً: "أنا الوحيد من مجموعة لم أذكر الجهاد في سوريا ولم يأتِ اسمي في الأطروحات التي طرحها المحرضون وأتحدى أن يأتي أحد بمقطع يدل على أنني قمت بتغرير بشاب أو بالتحريض على القتال في سوريا".
هذه الشواهد تدل على تراجع نفوذ الوعّاظ لحساب الملوك والأمراء، فبدل أن تكون مهمة هؤلاء تقويم أداء الحاكم والسهر على تطبيق الشريعة، أصبحوا يفتون ويخطبون بما يريده ملكهم وأميرهم. ومن هنا سنقوم بعرض عدة صور لكيفية تعامل الأمير المتهور ابن سلمان مع الدعاة.
بعد الإصلاحات التي قام بها ابن سلمان لتلميع صورة المملكة التي يراها العالم مملكةً للإرهاب والتطرف الديني وانعدام الحريات، أحب أن يظهر اعتدال السعودية الديني، فقام بإجرائين الأول منع الدعاة من الخطابة وأبرزهم الداعية محمد العريفي، وسجن كل من لم يتراجع عن الفتاوى والمواقف التي كان آل سعود أنفسهم قد طلبوها وغذوها، ومن المسجونين الداعية سلمان العودة وسفر الحولي والشيخ أحمد العماري.
وفي داخل السجن مارس السجانون شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي ضد الدعاة للتراجع عن آرائهم والعودة إلى رشدهم فمنهم من مات تحت التعذيب ولم يغير رأيه كالشيخ أحمد العماري، ومنهم من تراجع فأطلق سراحه كالداعية سعيد بن مسفر، وما زالت السجون السعودية تعج بالدعاة الرافضين لنهج ابن سلمان، كما إن قسماً منهم يعاني من أمراضٍ خطيرةٍ وينقلون باستمرار للمستشفيات من أجل العلاج خشية موتهم داخل السجون.
وعّاظ السلاطين في المملكة المتهاوية سيفٌ ذو حدين، حد يقوم به بن سلملن بتخدير الشعب السعودي وجعله طائعاً له من خلال التهويل والإتيان بفتاوى تثبت صوابية إجراءاته فيسكت الشعب المتدين من أجل ما يعتبره احتراماً لولاة الأمر، والحد الآخر هو ضرب مصداقية الدعاة والخطباء إثر تناقض فتاويهم وآرائهم بين فترةٍ زمنيةٍ وأخرى بشأن نفس الموضوع. وبعد ضرب مصداقية الدعاة يكون ركنٌ من أركان المملكة قد تهالك، وبالتالي فالركن الآخر سيسقط خلفه لا محالة. فهل سيستيقظ الشعب السعودي من سباته ويثور على الجناحين المخادعين ويسترد كرامته المسلوبة؟
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع