"الحضارة الإنسانية"، "التراث العالمي"، "الثقافة فوق الصراعات" وعبارات كثيرة اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي اليوم على اثر احتراق كاتدرائية "نوتردام" في باريس. سارعت الجموع الافتراضية إلى إبداء الحزن والأسف بشكل بدا وكأنّه سباق لنيل صفة "الانساني" الذي يعلو فوق الصراعات.. وبدونا نحن، غير المعنيين بالسباق، متطرفين ومعادين للثقافة ومناهضين للحضارة الإنسانية.. هكذا ببساطة، فالمعايير التي وضعها الغرب للتحضّر سرت في النفوس الى الحد الذي اصبح فيه وصفها بالدونية اعلاء من شأنها..
حين لا تجد نفسك مستنفرًا انسانيًا وحضاريًا تجاه معلم غربي، لا يعني الأمر أنك سقطت في تفاهة الشماتة، ولا أنك تعادي الحجر في الغرب.. الأمر أبسط من ذلك بكثير.. ذلك يعني أن هول ما حدث ويحدث لثقافتك وحضارتك كعربي مشرقي، وبأياد ومشاريع غربية، يجعل كل قواك "التعاطفية" و"التضامنية" مسلّطة في اتجاه واحد.. هذا الاتجاه هو ما يمكن تسميته ذاتك بصورتها الجماعية التاريخية، أناك التي امتدت اليها يد الغرب ودمرتها من فلسطين إلى اليمن، ومن سوريا إلى العراق.. حسنًا، قد يتحدّث البعض عن توخي الموضوعية بالنظر إلى الأحداث، فيتألّم "موضوعيا" من أجل "نوتردام" كما تألم لأجل آثار تدمر.. هنا أيضا نقع في فخ المسمى الملتبس: ما هي الموضوعية؟ من قال إننا يجب أن نكون موضوعيين؟! يجيبك أحدهم أن في موقفك غير المتضامن بعداً عن الموضوعية، وفيه بعض التطرف! طيب، وما الضير في ذلك؟ بالإساس من أقنعكم أن التطرف نحو ما نراه الحق هو امر سلبي!؟ من منكم يستطيع أن يمارس موضوعيته بمفهومها الغربي في حالتنا هذه؟ حضارتنا ومعالمها تخضع لتدمير منهجي. ثقافتنا تتعرض لاجتياح غربي يملي علينا المفاهيم التي يجب أن نرددها كي نثبت له أننا أهل تقدم وحضارة! يشبه الأمر أن يبتر الجلاد يدك، وفي أوج نزفك يصيبه في قدمه مسمار ويجرحه، فتحاول أن تصفق له بكل أطرافك، حتى بطرفك المبتور، كي لا يظن أنك تشمت به، وكي يقول عنك إنّك متحضر وتستطيع أن تعلو فوق الصراعات!
لن ندخل في مفاضلة بين الاثار التي دمرها الارهاب الغربي وادواته في بلادنا وبين الاثار والمعالم الغربية، فالمسألة هنا لا تدخل في أي معادلة رياضية او علمية.. هي، ببساطة ايضا، مسألة انتماء وفطرة.. فحبة التراب هنا أعز علينا من كل صروح الغرب المعمارية، تشبهنا ونشبهها، تحكي عنا ونتحدث لغتها.. تحنو علينا ونزهو بها.. الحكاية اذاً ليست حكاية تاريخ نوتردام الذي بدا الجميع اليوم ضليعًا به.. الحكاية حكاية أيامنا وذاكرتنا الحافلة بكل ما اتانا من الغرب من حريق ودمار.. المسألة ليست ثقافية بحت، ولا يوجد في الحقيقة فصل بين سائر مربعات التكوين التي احداها الثقافة. وبالتالي، لا يمكن مثلا ان نحزن على عالم نووي صهيوني ان مات وندّعي ان حزننا سببه تمسكنا بضرورة فصل التطور العلمي عن الصراع واعتبار الحزن عليه دليل رقي وتحضر!
 يمكن للحزانى على نوتردام ان يمارسوا طقوس حزنهم ولكل منهم اسبابه ودوافعه التي قد تكون شخصية، لكن ليس من حق أي محزون منهم أن يتهمنا في قيمنا وانسانيتنا ان لم نشارك في مراسم الحزن، ولا ان يمارس علينا اي نوع من تأطير ردود الفعل بحيث تخضع للمفاهيم الغربية والمعايير الاميريكية الاوروبية.. لكم كامل الحق بالدمع مواساة لعشاق "نوتردام" وكم ازدادوا اليوم! ولنا الحق الذي لا يسبقه اذن ولا يليه تقييم، أن لا نكون معنيين بالأمر.. أقلّه أن لا يوجعنا المشهد فيما في قلوبنا حريق يمتد من صنعاء إلى القدس مرورا بدمشق وبغداد، وفي عيوننا وعقولنا مقياس واحد لحضارتنا وثقافتنا واخلاقنا، اسمه : حضارتنا أولى بدمعنا، ولا نحتاج شهادة بانسانيتنا من أحد!

 

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع