استفزّت المُحاولات التركية للدخول الى طرابلس (والشمال عموماً) خلفَ ستار المساعدات الإجتماعية والمشاريع الإقتصادية، السفير الإماراتي في لبنان. ودفعته الى تكثيف حركته وجولاته التي يسعى إلى تصويرها على أنها «عمل إنساني» بلا أي رؤية سياسية... لكنّها وسيلته لتعزيز قاعدة نفوذ بلاده في لبنان، تمهيداً لاستغلالها في أي مشروع لاحق يهدُف إلى رفع منسوب التوتر
ليسَت بيروت بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات من عواصم المنطقة المُدرجة على لائحة «أرض الجهاد». هي أقرب إلى «أرض النصرة» بمفهوم الحركات التكفيرية التي لطالما رعتها الدولتان. المُواجهة مع إيران، تجعل أنظارهما مُسلطة على دول أخرى. في لبنان ينشط السفيران الإماراتي والسعودي بصورة توحي وكأنهما في زمن الحقبة السعودية (2005 - 2009). والسفيران ليسا متساويين. فالإماراتي حمَد الشامسي «سبق على الأبواب» زميله السعودي وليد البخاري، وأصبح بسرعة خاطفة «محبوب» مجموعة من السياسيين والإعلاميين... والناس... ولقبوه «صديق اللبنانيين»!
صحيح أن بلديهما لم يقررا بعد الدخول في مواجهة كبيرة على الساحة اللبنانية، لكن الشامسي والبخاري يراهنان على تراكم عمل قد يمتد لأعوام أخرى، لتثبيت نفوذهما بما يكفل جيشا من الإعلاميين والسياسيين المستعدين يومَ يحين موعد «النزال». ولا شك أن السفيرين، وتحديداً الشامسي، نجحا في تسخير عدد كبير من الإعلاميين المتأهبين دائماً للدفاع عن بلديهما والترويج لـ«خيرهما»، كما أحكما السيطرة على غالبية وسائل الإعلام التي تحولت منصات تسويقية لهما ولجولاتهما، فلا تتجرأ على إثارة ملف لبناني ليسَ على خاطرهما... كتوقيف لبنانيين في الإمارات واتهامهم بالعمل لصالح حزب الله ومحاكمتهم!
كُثر يسألون اليوم عما وراء «نطنطة» الدبلوماسي الإماراتي. وذروة هذا التساؤل تأتي من منطقتي الشمال والبقاع حيث لا يفوت فيهما السفير مناسبة إلا ويحضرها، حتى في بيوت عادية. زفاف، مأتم، حالة مرضية… «أي شي». يكفي دليلاً، أن الشامسي قصدَ منطقة البقاع لزيارة المهندس محمد علي ميتا (كان مرشحاً عن زحلة في الإنتخابات النيابية الأخيرة) لأن ابنه خضع لعملية جراحية... وفي جردة لنشاطاته اليومية، يظهر حرصه على الظهور على تماس مع المواطنين، حتى ولو على افتتاح مشغل التدفئة والتبريد في مؤسسة خيرية!
الإجابة على سؤال «ماذا وراء حركة الشامسي» تبدأ من الحديث عن صراع إماراتي - تركي صامت في الأطراف اللبناني، يُمكن لمسه عبرَ تتبع المزاج الشعبي على وسائل التواصل الإجتماعي لكوادر وناشطين معروفين أصبَح عندهم الرئيس رجب طيب أردوغان هو «القدوة»، ولا ينفكون يسوّقون للسياسة التركية في تركيا أو في المنطقة. وينقل أحد النشطاء في طرابلس أن الحراك التركي في الشمال لم يعُد خافياً منذ مدة. قبل أشهر زار وفد من رجال الأعمال الأتراك برفقة محافظ ولاية مرسين التركية مدينة طرابلس، وعقدوا سلسلة اجتماعات مع رجال أعمال لبنانيين وغرفة التجارة والصناعة في طرابلس، وتقدّموا بمشروع لربط مرفأ طرابلس بمرفأ مرسين، وزيادة نسبة التبادل التجاري، إلى جانب مشاريع أخرى مقترحة، من شأنها تثبيت الحضور التركي في شمال لبنان. فأنقرة تلاحظ «التراجع» السياسي الخليجي في لبنان، ولن تتوانى عن الدخول إليه. وتعمل تركيا على تعزيز أرضيتها من خلال زيادة منسوب المساعدات الإجتماعية، وإقامة مشاريع تعليمية وطبية.
الحراك التركي استفز السفيرين السعودي والإماراتي اللذين يواجهانه بالمزيد من الجولات والأنشطة. العمل الديبلوماسي السعودي والإماراتي في لبنان بات ينتحل صفة «المجتمع المدني»، فيقدّمانه كما لو انه يخلو من أي رؤية سياسية . هي وسيلتهما لتعزيز قاعدة نفوذ بلادهما في لبنان، وتجميع أكبر قدر ممكن من الأوراق في زمن «التوتر المنخفض» للصراع مع حزب الله، تمهيداً لاستغلالها في أي مشروع لاحق يهدُف إلى رفع منسوب التوتر. يستعيض السفيران عن حرمان بلادهما من أدوات «التوتر العالي» في لبنان، بجولات شعبية و«زيارات قروية» وتقديم بعض المساعدات البسيطة لجمعيات أو افراد، مع تسجيل ملاحظة أن هذه المساعدات تُقدم بناء على العلاقة المباشرة وليس عبر وسطاء من أي طرف سياسي. وربما هذا يفسر كلام وزير الخارجية السعودي عادل الجبير قبل أسابيع عندما طلب منه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مساعدة لبنان، فأجابه الجبير أن «لا ثقة، لأن حزب الله مسيطر على لبنان».
تخوف من امتداد الصراع في المنطقة بين تركيا والإمارات الى لبنان
مع ذلك لا تبدو هذه الحرب الصامتة «مرضية» لأي من المٌراقبين لها، إذ إن «الأتراك يسعون الى الإستثمار في الدول التي تملك مواقع استراتيجية متميزة يُمكن أن تعود بالنفع على المستثمرين الأتراك، ومنطقة الشمال في لبنان واحدة منها». وقد «يؤدي هذا المشروع التركي الى خطوة إماراتية أكبر قد تؤدي الى انقسام البيئة هناك وربما الى أكثر من ذلك»!
تنسُف مصادر سياسية بازرة الرواية عن محاولة الإمارات إعادة ملء الفراغ الذي أحدثه «انكفاء» السعودية عن لبنان، بعدَ تلمسّ الحاجة إلى ضرورة التغلغل في بلاد المنطقة، أو حتى وجود تنافس مع الأتراك. إذ ثمّة تطورات حصلت في السنوات الأخيرة، أهمها الحرب في اليمن، جعلت من لبنان مركزاً ثانوياً بالنسبة إلى الخليجيين بشكل عام. في الواقع ما يجري الآن، بحسب المصادر، ليسَ سوى «تعبئة الوقت الضائع»، عن طريق «فناجين القهوة والشاي والإفطارات التي لا تحقق نجاحاً على ما يبدو كما ظهر في طريق الجديدة وبر الياس». «لا شيء جدياً عند السفير الإماراتي» بحسب المصادر، وهو لا يتقدم على السفير السعودي بشيء. الرجلان «يحاولان تثبيت حضورهما الإجتماعي. يفعلان ذلك بالحدّ الأدنى من الميزانية لإقامة الدعوات، بهدف تعبئة حقيبتيهما =ببعض الصور». وإن كانت مهمة السفيرين المعروفين بعلاقاتهما الوطيدة مع فريق الرابع عشر من آذار خلال الإنتخابات النيابية الأخيرة، كسر الفريق «المعادي» في بعض المناطق، إلا أن الوضع الآن مختلف «فهما بعيدان عن دائرة القرار في بلديهما». وبالطبع «ليسَ من ضمن الحسابات السعودية - الإماراتية اليوم مجابهة محور إيران في لبنان»، علماً أن «لا أحد من الدولتين راضٍ على سياسة الرئيس سعد الحريري ولا سياسة الحكومة ولا العهد ككل». لكنهما إلى حين أن تقرر دولتاهما أن يكون لهما حضور سياسي عميق «يحاولان الإنغماس في الصالونات الإجتماعية أكثر من السياسية لتأكيد حضورهما».
في الواقع «ما يجري الآن ليسَ سوى استكمال لعمل التسويق لما يُسمى عمل الخير السعودي والإماراتي، وفقَ الآليات المتعارف عليها من تسخير بعض وسائل الإعلام والإجتماع بإعلاميات وإعلاميين من نفس الخط بهدف الترويج». وتقول المصادر إن «ملف التسويق الذي تتولاه بعض الشاشات فيه الكثير من المبالغة، كما حصل يومَ مبادرة الشامسي الى دفع غرامات عدد من السّجناء الذين أنهوا محكوميَّتهم وليس باستطاعتهم دفعها، وهي خطوة كانت تقوم بها وزارة الداخلية عادة».