يشهد "سوق الإعلام" في لبنان سوءًا لم يعهد له مثيلًا من قبل. مع انخفاض المعايير التي تمنح صفة "الإعلامي" للكثير من الذين يجهلون أصلًا ما هي "المهنيّة" في العمل الإعلامي، تحوّل هذا العمل إلى ساحة لا تحكمها إلّا رغبات المشغّل، الخاضع بدوره لرغبات "رأس المال".. وما المشاهد أو المستمع أو القارىء إلّا عدد! وازداد الأمر سوءًا مع دخول "منصّات التواصل" إلى قلب الساحة. الإعلام، الذي وجب أن يكون بشكل من الأشكال مرآة تظهر وجه الناس لكل الناس، تحوّل إلى شاشة وهمية، تظهر وجهًا مشوّهًا وتسعى لإقناع الناس أنّه وجههم. والطامة الكبرى أن ثمّة من اقتنعوا!
بعيدًا عن التعميم، طوّعت ثقافة الاستهلاك هذا المجال المهني بشكل حوّل الكثيرين إلى طبول فارغة، وعقول خاوية إلا ممّا يمليه عليها المشغّل، التاجر الذي يتتبع بورصة المواقف، ومؤشرات العرض والطلب، ليبيع هنا ويشتري هناك، حتى لو حوّل مؤسسته إلى سوق نخاسة بأسعار زهيدة! هذا الأمر، جعل السّلع المعروضة في هذا السوق تتنافس فيما بينها كي لا يزيلها التاجر عن الرف، فكثرتها تحتّم عليها أن تبقى على قيد الشهرة والتداول بين الزبائن كي لا تنتفي أسباب عرضها وبالتالي تُزال لصالح سلعة متداولة أكثر.
حسنًا، بكلام آخر، وفي المرحلة الأولى من التّسليع، شاهدنا جحافل من الدمى تتنافس فيما بينها على إظهار الشكل على حساب المضمون.. شيئًا فشيئًا زال المضمون النّوعي، وصرنا أمام سيل هائل من البوتوكس ومرادفاته، يملأ شاشاتنا، وينتقل بفعل "تقليد المشاهير" إلى حياتنا اليومية.. خواء معبأ في وجوه وأجساد منتفخة. والقاعدة لم تقتصر على الإناث بل انتقلت إلى الذكور ولو بنسبة أقل. تزامن هذا "الشكل الموحد" مع تعبئة بالمواد التي تضر بالبيئة الثقافية وبالقيم المجتمعية ما أكّد فرضية المؤامرة المدروسة والمدعومة، وحوّل هؤلاء الإعلاميين والإعلاميات إلى ضحايا مشغليهم بالدرجة الأولى.. إذ دخلوا في نفق يصعب الخروج منه، وتحتم عليهم أن يخسروا الكثير من انسانيتهم في طور التحول إلى أدوات تتنافس فيما بينها كي لا تُرمى!
أما بعد، وهنا الحديث يشمل معظم المؤسسات الإعلامية وجميع منصات التواصل، بكلام أدق، يشمل معظم الإعلاميين والإعلاميات، والكثير من الناشطين والناشطات. ان كان التفريغ لصالح الشكل، والتعبئة بالملوثات السمعية والبصرية بهدف التأثير على بيئة المقاومة وضرب الثقافة الوطنية ككل، كان مسارًا تلفزيونيًا بالدرجة الأولى، فالمسار الاعلامي العام دخل مرحلة تكاد تكون الأخطر، إذ تخلّى المشاركون فيه عن تحوير وتضخيم الأمور وتحوّلوا إلى اختلاق القصص وتصويرها على أنها وقائع وحقائق، والهدف واضح وصريح: التصويب على حزب الله بشكل خاص، وعلى كل ما يدور في فلكه.
أصبح الأمر أشبه بوصفة مجرّبة يتناقلها أفراد هذا الجمع في سبيل الشهرة وفي سبيل إرضاء "المشغّل" ومشغليه على حد سواء. تقول الوصفة: هاجم حزب الله كيفما شئت يصبح اسمك قيد التداول، وإن تولى الكثيرون مهاجمتك أو شتمك حتى.. لا يهم، على العكس، ستحقّق بذلك رصيدا اكبر من الشهرة، وبنفس الوقت، قد تحصل على ترقية أو علاوة تؤجل الاستغناء عنك في مؤسستك ان كنت "اعلاميًا"، او ان كنت "ناشطًا" قد تحصل على فرصة التحوّل إلى "وجه إعلامي".
بعد التفاهة والبذاءة، دخل الاعلام، بكل فروعه، عصر الكذب الصريح، والافتراء المنظّم، وتحوّل إلى خطر حقيقي على روّاده قبل متابعيه.. فالإصابة بمرض الشهرة والتنازلات التي يقدمها المصابون به في سبيل رضا "المالك" لا تكلّفهم كراماتهم وضميرهم المهنيّ ومصداقيتهم وحسب، بل قد يصل الأمر إلى فقدان إنسانيتهم بكل وجوهها.. ورأينا على ذلك أمثلة كثيرة.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع