"هذا الدرب إذا سلكته القلوب لا تتعب الأجساد"، فلسفة الوصال والوصول، بين الأرض والسماء، هي أقصر الطرق الى صافي، وأقلها مشقة، ليس في الأمر مبالغة من أربعينيّ شارف على الخمسين وهمّ بارتقاء جبلِ ناطح الغمام واعتلى صهوة المجد متكئاً على أكتاف المقاومين.
هنا .. لا بل "هونيك".. عا قمة جبل صافي.. بيسرح خيال الفكر والالهام ما بين نسمة وبين صفصافي"
"هونيك بتشوف القمر بسام .. عشقان صخرة وعالأرض لافي"
ومطرح ما عما بتدعس الأقدام .. بقول بوسي الأرض يا شفافي"..
هونيك حيث كُنا.. وعلى وقع تسلل كلمات قصيدة "أبو علاء*" الشهيرة الى شغاف القلب المثقل بالشوق، تسلل العشق يسابق الخطى عابراً الطرق المرصوفة بحجارة موشحة بالأحمر الترابي والحصى الغارقة في تربة سمراء داكنة، هناك، تماماً حيث عبرت "أقدام ملائكة الجبل الحارسة" للقرى المعلقة في الأفئدة واستراحت في فيء قندولة أو ظل أغصان الشوح المتراصة على جوانب الدرب.. تقدمت عابراً نحو الحب بشغف العاشقين.
تقدمت محاولاً اللحاق بموكب المتسلقين الذين سبقوني بهمة وحماس، لكن هيهات، كيف لهذا الجسد أن يعبر بين صفحات التاريخ المشلوحة على جانبي الدرب، ولا يتوقف؟ كيف له أن لا يخلع نعليه ويركع، ثم يسجد ثم يلقي نظرة على نقطة الـ 75 ويستذكر كيف صمد ثلة من المقاومين بوجه محاولات العدو المتكررة اقتحام الجبل، ومرة ليلقي نظرة على "سجادة الضباب المفلوشة على الوديان"، فيقف متحفزاً حتى يكاد يقفز في عبابها طمعاً ببعض ما اختزنته من ملامسة وجوه المقاومين أو تبركت به من أكفهم.
لا شيء يوقظك من سرودك أو شرودك الدافئ هذا إلا ومضة ألق من جبين مقاوم، فكيف إذا كان هذا المقاوم "أبو رائد" الشهيد علي حجازي، وهو يعتلي لوحة تملؤها ضحكته، ضحكة يكاد يتفجر رنينها تماماً كما تفجرت عبواته وهو يوقف تقدم مدرعات الاحتلال على أبواب اللويزة، ضحكة المتيقن من الوصول والساعي الى الوصال والعاشق للشهادة حد مناجاة الله طلباً لها عند صخرة الصفا.
ينتشلني أحد رفاق المسير من بين عيني "أبو رائد" الضاحكتين ويطلب مني أخذ صورة له على خلفية الضباب الذي بدأ يتمدد نزولاً كسيل الماء المصبوب رذاذاً مع شلال ضوء بدأ يفرد أشعته متلألئاً بين الأغصان، مترافقاً مع زقزقات أبو الحن، أنيس المجاهدين ورفيق مرابطاتهم الطويلة بين سفوح صافي ومياسة**.
ومياسة هذه هي هضبة مجوفة تتمايل غرباً فتلقي بظهرها على صافي وتتبختر شرقاً فتطل على قرى الريحان المطمئنة لجيرة كانت القاعدة التي انطلقت منها أفواج المحررين والفاتحين، تسبقها التسبيحات والتكبيرات لصلاة فجر التحرير، التي استعدنا بعضاً من لحظاتها حين ارتفع صوت "الدكتور أيمن" طبيب الأسنان الشاب مؤذنا في مخيمنا للصلاة، فمالت "المياسة" على "الريحان" تنثر عطراً فريداً لا يفوح الا ممن تعبّق بطيب الشهادة.
في الطريق الى صافي تلتفت نحو "مياسة" فلا يظهر منها إلا أطراف رؤوس الشجر، وكلما تقدمت صعوداً كلما اختفت في جوفه أكثر فأكثر، فمسيرنا يشق طريقه عبر درب التفافي تتوسطه تلة تمترس فيها مقاومان كان لفطنتهما دور كبير في إيقاف تقدم "فوج العشرين" الشهير، وافشاله، بواسطة سلاح "دوشكا" تفنن ملقمه والرامي به في حصد أرواح المتسللين وجرح وأسر بعضهم، الأمر الذي كان سبباً في اجبار العدو لاحقاً على الدخول في مفاوضات أمنت تحقيق شروط أفضل للأسرى والمعتقلين في سجون العدو.
وحين تضع تلك التلة خلفك وتواصل طريقك يظهر لك طرف "المقام" محفزاً على التقدم رغم التعب الشديد الذي بدأ يثقل الخطى، فتخير نفسك بين خسارة الدقائق للراحة الجسدية، وبين الفوز بها معطوفة على راحة روحية تعجز الكلمات عن وصفها أو الدلالة عليها، خاصة حين تطأ قدماك عتبة القمة وينتصب المقام أمامك وهو يلبس حلة الترميم إيذاناً بقرب فتح محاريبه أمام الزائرين (ضمن مشروع جديد للسياحة الجهادية)، والى يمينه انتصب مقاوم فوق صخرة شاهقة مبتسماً وهو يرثي لحالنا نلهث كمن تلاحقه الريح وتطلبه الضواري، نتقدم نحوه ونحن نحاول كتم إحراجنا أمامه، فيعرض علينا مشاركته قهوة الصباح "بدون سكر"، فأتذكر ضاحكاً، لوحة حملها أحد المقاومين في معارك الجرود وقد كتب عليها "وين في لبناني .. في بن .." إذ على ما يبدو أن للقهوة مكانة خاصة عندهم، وكيف لا تكون كذلك وأنت ترتشفها من على أعلى قمة في جبل المقاومة، والغيم يسبح تحت قدميك بخفر وخجل، والشمس تكاد تلامس في شروقها كتف الجبل، وهنا وهناك صور محفورة على صخرة الذكريات الموزعة كيفما التفتّ، لوجوه مقدسة احتلت الوله واليقين، القلب والعقل، فامتلكت الجسد والروح، فقط هنا على قمة "صافي" تشعر بهذا التكامل العظيم، فقط هنا، على شرفة النصر المُطل على بقاع الضوء جنوباً، تشعر بأن الطريق الى القدس قريب كما هي الطريق الى السماء.
هذا اليقين ليس وليد معرفة وقدرة لمن هم مثلي، أبعد ما يكونون عن "فنون الحرب والنصر"، بل هو وليد ثقة بصناع النصر، كالقائد الجهادي الحاج "بوعلي" الذي مر على مخيمنا مسلماً، وروى لنا بعضاً من حكايا "الرباط" مستذكراً وصية الشهيد القائد الشيخ راغب حرب له حين زاره فيها "احفظوا هذه البقعة فهي مأوى المجاهدين"، قبل أن يخفض عينيه وهما تغالبان الدمع مستذكراً سيد شهداء المقاومة السيد عباس الموسوي، ومرابطته مع المقاومين كما سماحة السيد حسن نصرالله في هذه "البقعة"، كما لم ينسَ الحاج "بوعلي" وهو يحدثنا عن الانتصارات أن يؤكد على القادم منها، بيقين العارف ببواطن الأرض وقمم الجبال وأسرار الوديان ومعادن الرجال، فيكرر مرة تلو أخرى أن المقاومة لم تكن يوماً حاضرة لصنع النصر في أي مواجهة كما هي عليه اليوم، وهي تتحفز وتتحين الفرصة للقاء مع العدو وتلقينه درساً جديداً في التكتيك والمباغتة كما في المفاجآت. ويضيف الحاج واثقاً "هذه المسيرة منتصرة. سجلوا ذلك في منشوراتكم ووثقوا إرثنا العظيم، فأنتم مؤتمنون حيث تنشطون على رواية فصولها، وعليكم أن تثبتوا أنكم أهل لذلك".
*الشاعر المقاوم نديم زين شعيب
**المياسة لغوياً: المتمايلة في مشيها، المتبخترة. ومذكرها ميّاس