ذات أيار ٢٠٠٠، احتشد الشّرفاء صوب القرى المحرّرة، واحتشد العملاء عند بوابات الحدود راجين العدو الإسرائيلي السماح لهم بالالتحاق بجنوده المهزومين. أغلب الظنّ أن هؤلاء لو عرفوا أن القانون اللبناني سيبدي كل الحرص على تخفيف عقوباتهم لما وقفوا في شمس الظهيرة بانتظار أن يسمح لهم مشغّلهم بدخول الأراضي المحتلة.

في تلك الأيام، حرصت المقاومة قيادةً وأفرادًا على عدم السماح بأفعال انتقامية قد يقوم بها النّاس تجاه العملاء وعائلاتهم وبيوتهم، وحرصت أكثر على أن تكون الدولة هي المرجع الوحيد الموكل بمحاسبة هؤلاء، وإنصاف أهل القرى الذين تذوقوا المرّ على مدى سنوات عاشوا فيها تحت رحمة سفالة العملاء الذين كانوا يبدعون في إيذاء النّاس رغبةً منهم في إرضاء مشغّلهم الصهيوني.

حينها كانت المطالبة بإعدام العملاء القتلة وإنزال أشدّ العقوبات القانونية بهم أمرًا بديهيًا، وجميعنا نذكر كلمات سيّد المقاومة الأمين العام لحزب الله السّيد حسن نصرالله يوم طالب بإعدام العملاء والبدء بالشيعة منهم كي لا يُتخّذ من "المعيار الطائفي" ذريعة لتخفيف العقوبات.

بدأت المحاكمات للعملاء الذين تمّ تسليمهم للدولة أو الذين استسلموا في أول ساعات التحرير ولم يقفوا في صف الانتظار للهرب إلى داخل فلسطين.

صدرت الدفعة الأولى من الأحكام التي تراوحت بين الستة أشهر والثلاث سنوات بمعظمها.. عمّت الخيبة قلوب كل المتضررين من أذى العملاء، واستعاد العملاء الهاربون جرعة قوّة عزّزت وقاحتهم في البحث عن سبل العودة، لا سيّما المتموّلين منهم الذين كانوا قد غادروا فلسطين إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية. عرفوا أن سقف الأحكام لن يكون موازيًا لارتكاباتهم، فعاد البعض منهم وكأنّ خيانة لم تكن. فيما استقرّ البعض الأخر في فلسطين المحتلة، ومارسوا هناك الدور الذي كانوا يمارسونه هنا في خدمة الجيش الصهيوني، بعضهم تزوّج وانجب وبعضهم اطلق مشاريع لمستقبله بعيدًا عن الأرض التي دنّسها وأساء لأهلها شرّ الإساءات.. حتى جاء من رفع حكايتهم وكأنها قضية وطنية، وذهب إليهم واعدًا إياهم ببذل كل جهد من أجل أن يعودوا إلى لبنان. سمّاهم "المبعدين قصرًا" وبرّر جرائمهم بمبرّرات لا يقبلها عقل ولا ترتضيها كرامة.

بقي الملفُّ مفتوحًا. وبقي القانون يجد لهم في ثغراته أبوابًا للعبور نحو أحكام قضائية مخفّفة، فيما اجتهد سياسيون وجمعيات لمحو وصمة العمالة عنهم وجعل المجتمع أكثر تقبّلًا لهم.

لكن هيهات! في قرانا يُقال إن "الجمرة ما بتحرق إلا مطرحها" وجمرة العملاء أحرقت قلوب الآلاف. من يُحصي عدد وأسماء المعتقلين والمعتقلات في مراكز أمن العملاء وفي الخيام، والذين تعرّضوا لأبشع أشكال التعذيب الجسدي والمعنوي؟ من يمتلك من الوقاحة ما يكفي للنظر في عيون أمّهات من استشهدوا على أيدي العملاء الجلّادين.. من يستطيع أن يخبر أسيرة محرّرة من معتقل الخيام أن عليها أن تكفّ عن التحديق في النّدوب التي ما زالت تحفر في جسدها جرّاء سياط الجلادين؟ من يمتلك حق إسقاط حقوق كل قلب وكل جسد وكل روح عانت وما زالت تعاني من قسوة الاعتقال؟ بأي درجة من السّفالة يكون من يتذرّع بمرور الأعوام وسقوط مذكرات التوقيف ليسمح لعميل قاتل أن يعود حرًّا ويسير بيننا.. ببساطة قاتلة؟

نحن هنا لا نتحدّث عن رغبة بانتقام، وان كان الحديث عن الانتقام مشروعًا.. المسألة تكمن في الإنصاف.. الإنصاف الذي وُضعت القوانين بحجّة صونه وتكريسه.. الإنصاف الذي هو أحد أبسط حقوق المظلومين!

بعودة الذليل الفاخوري اليوم، لا بدّ سمع الأسرى المحرّرون من معتقل الخيام صوت صرير أبواب الزنازين، لا بدّ صرخوا كمن تلقّى بالسوط ضربة.. لا بدّ اختنقت انفاسهم وهم يستعيدون ذاكرة التعذيب التي رافقت أعوامهم كلّها.. بعودته، التي بذريعة "انقضاء المدة" أُعيد معتقلو ومعتقلات الخيام إلى زنازينهم، وكأنه وجب عليهم أن يقبلوا بأن لا يُنصفوا يومًا.. مهلا! جراح هؤلاء وغيرهم لا تسقط بانقضاء المدّة.. والقانون الذي لا يؤدي إلى الإنصاف ساقط.. القانون الذي يحوي ثغرات يتسلل منها العملاء إلى أيامنا تحت مسمّى "مبعدين" ساقط.. وإن لم يسقطه التشريع، فلتسقطه الشوارع.

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع