كادت عودة العميل عامر فاخوري إلى لبنان تمرّ بدون حسيب ولا رقيب لولا ما نشرته جريدة الأخبار، ولولا تفاعل النّاس رفضًا واستنكارًا والذي بدأ عبر منصات التواصل الاجتماعي وانتقل إلى الأرض أمام قصر العدل وفي معتقل الخيام.
هذه "العودة" رغم بشاعتها، ودلالاتها المسيئة لكل فرد منّا، كانت فرصة أدّت إلى إيجابيات كثيرة منها أنّها كشفت للرأي العام أن يدًا، لا تزال خفيّة، قامت بتبييض سجلات عدد كبير من العملاء (ستون عميلا بحسب تلفزيون المنار) وأمّنت لهم عودة سلسة وشرعية إلى لبنان. ومنها أن أعادت حكايات الأسرى المحرّرين إلى واجهة الاهتمامات الوطنية، وبهذا أمكن لذاكرة الناس الشّفهية أن تستعيد تاريخًا محكيًّا من المقاومة وعنها. ومنها أيضًا أنّها كشفت الغطاء عن حكايات ومسيرات أبناء العملاء وطبيعة حياتهم سواء في الأرض المحتلة أو في أوروبا وأميركا.
فُتح ملفّ العملاء من جديد، ومعه انكشفت أيدٍ تعبث بسجلات العمالة فتصبح شريكة لهم. أيدٍ بأسماء لا تزال، حتى اللّحظة، مجهولة لنا لكنّها ستنكشف عاجلًا أم آجلًا تمامًا كما انكشفت عودة جزار الخيام الذي ظنّ أن الأيام ستعفو عن جرائمه السابقة أو تلك التي اعترف بها وبيّنت أنّه ما زال يزاول الخيانة، وأنه أصلا لم يتلُ فعل ندامة وكأنه وغيره من العملاء مقتنعون بأنّهم لم يرتكبوا اثمًا ولا خطيئة.
ربّما، لولا قرار الفاخوري الوقح بزيارة لبنان ولولا كشف هذه الجريمة التي تبيّن أنها جريمة منظّمة وعمل عصابات محترفة، لما أتيح لنا أن نكتشف أن الفاخوري ليس أوّل جزّار تجرأ على العودة، وسمحت لنا أن نساهم في جعله الأخير. ولما أتيح لنا أن نعود ونكرّر رفضنا لدنس اسمه العمالة والعملاء، نحن الذين كنّا شهودًا على ندوب التعذيب في أرواح المقاومين والمقاومات، وبيننا من عاش التجربة بكل تفاصيلها المروّعة سواء مع معتقل محرّر قريب أو من خلال حكايات الأهل وشهاداتهم.
استمعنا في هذه الأيام إلى صوت المحرّرين والمحرّرات من معتقل الخيام. تفاصيل عذاباتهم التي احتفظوا بها على مرّ سنوات خرجت إلى العلن ترافقها غصّة الكرامة التي ما أهدرها الأسر بقدر ما أهانها أن يسمح أحد ما لنفسه بأن يتجاهل جرائم العميل، وجراح المقاومين، وكأنهم سواسية! عدنا إلى لحظات تحرير الأسرى من معتقل الخيام، سمعنا صرخات حريّتهم وقارنّاها بغصاتهم اليوم التي سبّبتها يد مجرمة سمحت للجلاد بأن يفكّر أن بإمكانه أن يجول حرًّا بيننا.
على الضفّة الأخرى من المشهد، أمكننا أن نرى أبناء وبنات العملاء الذين حاول البعض تصويرهم وأباءهم وكأنهم ضحايا إبعاد قسري، وكأنهم منفيون أبرياء، حتى كاد البسطاء أن يصدّقوا أن لا ذنب للأبناء في ما ارتكب آباؤهم. لقد أتاحت لنا الأيّام الأخيرة أن نتعرّف على حقيقة أبناء العملاء، الذين صاروا بدورهم عملاء سواء بالوراثة أو بالمجهود الشخصي. واكتشفنا أن بينهم مجندين في جيش الاحتلال، وبينهم من يوظّف كل قدراته في خدمة المحتل، وبينهم من ارتضى نذالة التباهي بالعمالة، وأن جميعهم بلا استثناء لا يمتلكون من عزّة النفس ذرّة تحرّك فيهم الخزي والخجل مما ارتكب اباؤهم. حتى أن ابنتي العميل فاخوري، على سبيل المثال، هبّتا بالأمس تحاضران بالوطنية وتوجهان التّهم إلى المقاومة وناسها وتتباهيان، بكل فجور، بحب المقبور لحد وبعض الأحياء الذين على نهجه ساروا!
وقاحة العملاء وأبنائهم بشكل أو بآخر جعلتهم يرتكبون الخطأ الذي لم يسمح بأن تكتمل الجريمة، فقد سمحت لنا أن نرى المشهد الكامل لملفّ وحساب لن يُغلقا إلّا بإتمام معاقبة الجُناة وإنصاف الأسرى المحرّرين، بل إنصاف كلّ روح تذوّقت ويل العيش ولو لحظة تحت وطأة الاحتلال وجلّاديه!
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع