فجأة، استقيظ علي، الذي ربّما لم ينم، وراح يضرب باب الزنزانة بيديه. يصرخ بأعلى صوته: «أنا مكاني مش هون». أستاذ المدرسة لا يعلم سبب المجيء به إلى معتقل الخيام. بدا واضحاً لرفاق زنزانته، وعددهم أربعة، أنّ هذا الرجل الطويل، ضخم الجثّة، ليس مِن النوع الذي سيطول أمد اعتقاله. يضرب مجدّداً الباب الحديدي، ويصرخ: «بدّي الشرطة اللبنانيّة، بدّي الجيش اللبناني المغوار، الواقف عَ حدود النار». كان يعلم أن الذين اعتقلوه، والذين يُديرون المعتقل، هم لبنانيّون، وصحيح أنّهم يلبسون ثياباً عسكريّة... إلا أنّهم ليسوا مِن لبنان الذي في خاطره. إنّهم ميليشا لحد العميلة لإسرائيل. بدا كمن فقد أعصابه. لم تنفع كلّ محاولات تهدئته. جرى ذلك قبل 33 عاماً. زميل زنزانته، آنذاك، عدنان عقيقة، لا يزال حيّاً. هو مَن حكى لنا أنين تلك الليلة. التقيناه في وسط بيروت، أمس، حيث أقام الأسرى المحررون اعتصاماً ضدّ عودة آمر ذلك المعتقل، عامر الفاخوري، إلى لبنان بلا محاكمة... أو بمحاكمة جرى عليها «تقادم الزمن».
ظلّ علي يصرخ ليلاً، إلى أن جاءته شرطة المعتقل، تحديداً جورج كرم وحنا سلامة (عويجان). بدأ الضرب. أخرجوه مِن المبنى. عُلّق على عمود حديديّ في الخارج. كانت ليلة باردة. عقيقة، وباقي زملاء الزنزانة، ظلّوا بلا نوم إلى الفجر. كيف ينامون وصوت علي، الآتي مِن الباحة الخارجيّة، يخرق آذانهم: ضرب، ركل، رمي بالماء البارد، جلد بكرباج، بعصا الرفش... «صوته تلك الليلة جعلنا نختنق». عند الفجر، تقريباً، خفت صوت علي. ربّما تعب الجلّاد مِنه، وربّما، الله أعلم. كل نزلاء المعتقل، تلك الليلة، كانوا يسمعون أنين علي وصراخه. صباحاً سألوا عنه، إنّما لا إجابة، ولاحقاً ستأتي الكثير مِن الإجابات - الشائعات. علي إلى اليوم مفقود الأثر. لا أحد يعلم مصيره النهائي. وحده حالياً عامر الفاخوري يمكنه أن يكشف الحقيقة. هو، بحسب الشهادات، مَن أمر بتعذيبه، وهو مَن شتمه أثناء تعليقه على العمود، وهو مَن وضعه بعد ذلك في صندوق سيارته وأخذه، حيّاً أو ميتاً، إلى خارج المعتقل. عائلة علي، أولاده تحديداً، يُريدون معرفة مصير والدهم. تقدموا بشكوى قضائيّة ضدّ عامر الفاخوري بهذا الصدد.
الأسير المحرّر جهاد حمّود، الذي كان حاضراً في اعتصام أمس، نقل لنا ما قاله يوماً الفاخوري للأسرى: «ولك مين انتو لتقاتلوا إسرائيل، ولك مين انتو لتكونوا مقاومة؟». كان هذا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. الفاخوري عاش ورأى يوم التحرير. تُرى كم كانت حسرته، هو وأمثاله، في ذلك اليوم. حمّود يتذّكر أيضاً يوم أضرب الأسرى عن الطعام، كيف جاء الفاخوري وسألهم عن سبب إضرابهم، قبل أن يغضب ويُبادر إلى الدعس فوق الطعام بحذائه (على طريقة «عمركم ما تاكلوا»). لن ينسى حمّود أنّه قضى 79 يوماً بلا استحمام، كعقوبة، بأمر مِن الفاخوري. أمّا علي درويش، الذي لم يكن أكمل 18 عاماً من العمر يوم اعتقاله في الخيام مطلع التسعينات، فيذكر مواجهة لافتة له مع الفاخوري. قال له أثناء التحقيق: «أنا ما اشتغلت مع المقاومة الوطنية حتى قاتلكم، إنتو عملاء، إنتو كياس دشم للإسرائيلي، أنا جيت حتى قاتل الإسرائيليين». لم ينس الفاخوري هذه الكلمات لدرويش. بعد أيّام عذّبه، أهانه، وضع فوهة مسدسه في فمه. راح يخوّفه بأنّه سيضغط على الزناد. وبالفعل، ضغط أخيراً، لكن الرصاصة لم تخرج. هكذا كان «يلعب» بأعصاب ذاك الشاب الذي كان أصابه بكلماته في الصميم: «أنتم دشم لإسرائيل».
نحو 60 أسيراً مُحرّراً اجتمعوا أمس اعتصاماً، ذكوراً وإناثاً، بحضور هزيل مِن وسائل الإعلام رغم الدعوات إلى التغطية. حضر وكيل الأسرى المحررين، المحامي معن الأسعد، واجتمع بالحاضرين، وكذلك فعل الأمين العام لمركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب، محمد صفا، الذي تكفّل بشرح حكايات ذلك المعتقل الشهير لبعض الحاضرين المتضامنين. كثيرون هناك، أمس، كانوا يستذكرون كلمات كانت قالتها سابقاً والدة الشهيد بلال السلمان، الذي قتِل بأمر مِن الفاخوري: «إذا ما حدا قتل يلي قتلوا ابني، أنا رح اقتلهم واحد واحد». هؤلاء الذين اجتمعوا أمس لن ينسوا ما جرى عليهم، والأهم أنّهم لا يُريدون أن يَنسوا، وعلى «مَن يُهمّه الأمر» أن ينتبه إلى ذلك.