"من أين لك هذا، عم تلعب بالملايين"، أغنية أيقظت الشارع بصوت المطرب محمد اسكندر. الأخير توجّه بصوته الى "السلطة الفاسدة" وأطرب إيقاعها وسائل الإعلام من جهة، وساحات التظاهر من جهة أخرى. عظيم، الشعب انتفض، وكان لأغاني جوليا بطرس دورها في تأجيج الضمير الحي الذي لم يمت في اللبنانيين. هذا ما أثبته الحراك على مدى أسبوع ونيّف. عظيم، الشعب "واعي وفايق"، والمشهد "بكبّر القلب"، تحققت وحدة لبنان واجتماع المذاهب والطوائف على حق واحد، هو إسعاف الوجع الواحد، كاسراً كل هاجس بينه وبين السلطة، ومقاتلاً بقوّة كل التعصبات الطائفية والحزبية. عظيم، إنها ثورة عظيمة، أحسنت ايها الشعب. " نتفهم حراككم، وابقوا في الساحات، ولا تخافوا فلا سفارات حرّكتكم وحققتم نتائج"، بلسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في الخطاب الأول.

خطاب السيد نصر الله تغيّر مع تغيّر الأحداث. وبين الخطاب الأول والثاني، تحوّل الوطن الى فوضى، فوضى الآراء، فوضى وجهات النظر، بعضهم نظر الى ساحة الشهداء نظرة احتقار بسبب ما يحصل فيها من مظاهر الفساد الأخلاقي، اما البعض الآخر فاعتبرها اوقات ترفيه لهذا الشعب المتعب من نهار ثائر طويل. بعضهم اعتبر أن إشكال النبطية خطأ وبعضهم اعتبره صواباً، بعضهم اعتبر أن إشكال صور خطأ، وبعضهم اعتبره صواباً، بعضهم اعتبر أن إغلاق الشارع عدوان، وبعضهم اعتبره تعبيراً مُحقاً لشلّ حركة البلد، بل حتى الفوضى تحولت من مجرد آراء الى فوضى شارع، فراح البعض يقيم حواجز الهويّة، والخوات، وكأن الفوضى صدّقت نفسها واعتبرت أن البلد دُمّر وانهار كلياً والحرب بدأت ! بعضهم اعتبر أن المطالب صعبة فلا نظام لدينا ليسقط والفراغ مُخيف، والبعض المقابل اعتبر ان السلطة كلها يعني كلها فاسدة ويجب أن تزول. بعضهم اعتبر أن السيد فاسد وبعضهم اعتبر أن "السيد أشرف منن". وهنا وقع الصدام الأخطر، فهل السيد هو معهم ام أشرف منهم؟ فهذا الرجل الذي حمى لبنان من أخطر عدوان، وحرر الأرض من أخطر عدو، وقدّم الشهداء، ورفع راية مكافحة الفساد السياسي والمالي، كيف للبعض أن يتطاول عليه ويقحم اسمه بين أسماء الفاسدين؟ هل جمهور المقاومة عليه أن يحترم الناس ام لا ؟ هل هؤلاء الناس مأجورون ام عفويون؟ هل نتدخل؟ هل علينا أن ننزل لنشارك المتظاهرين الأوجاع أم لا؟ وهنا حكمت فوضى الآراء مجتمع المقاومة. كاد البلد أن يشتعل، الكل منزعج، مستاء، حتى المتظاهرون ضاعت أفكارهم، ماذا يقولون وعلى من يصوّبون، يسقط حكم المصرف أم يسقط النظام؟ أين وسائل الاعلام من هذا وذاك؟ من الذي يقودنا وكيف نجلس مع السلطة لنتفاوض؟ نقاطٌ أشار اليها السيد نصر الله في خطابه الأول، وكشفها في الخطاب الثاني.

بالعودة الى أغنية اسكندر، وكأن السيد أراد أن تتوجه هذه الأغنية الى قادة الحراك، فمن أين لكم هذا، تلعبون بالملايين، فمن الذي يقود هؤلاء الناس الطيبين؟ من الذي يقود أوجاعهم على طريق الحل، ومعالجة الفساد؟ من الذي يصرف الملايين على تكاليف الحراك، او الثورة كما يريد البعض تسميتها؟ من انتم؟

سأل السيد، و كشف المستور، "تقاطعت معلوماتنا ليتبين أن سفارات وأحزاباً لبنانية تعمل على دعم التظاهرات مقابل توجيهها الى الصدام الأهلي الطائفي". طلب السيد من جمهور المقاومة، فقط جمهور المقاومة، ان ينسحب من الساحات. تُرجم هذا الطلب، على انه خذلانٌ لثورة الشعب، خذلانٌ لوجع اللبنانيين، وعلت أصوات المتظاهرين على وسائل التواصل الإجتماعي، هذه الأصوات التي بُحّت خلال الثورة، أصابها الإحباط بعد الخطاب، متهمة السيد بتركهم، والتفرّد بجمهوره وحزبه على الحياد، فهذا الرجل الذي رفع كل ألوية الكرامة، واستعد لكل أشكال التضحية، يترك اليوم هذا الشعب وحيداً في الشارع يئنّ من الوجع! ردّة فعل بديهية، لا غبار عليها، لأنه شعبٌ طيّب، أصغى بكل حواسه لكلام السيد لأنه يؤمن بحكمته وبصيرته، انتظر الشعب كلمة تثير فيهم نبض الثورة من جديد، وتدعم وجودهم وحراكهم، إلا أن ذلك لم يكن . فهل تخلّى السيد عن حكمته وبصيرته وتخلى عن ثورة المستضعفين؟ طبعاً لا، فالحكمة تجلّت هنا في ان السيد رضي بأن يُصفع هو ولا يُصفع الوطن. فلو أراد السيد ان يُكمل الى جانب الشعب ويُفرِحه بخطابه ويستر عمل السفارت، لكان سمح للفوضى ان تستمر ويذهب البلد الى المجهول ويضيع كل شيء، ويضيع الشعب في شوارع كلها دمار وخراب ودماء في كل مكان، كما أرادته السفارات بالتعاون مع بعض الأحزاب اللبنانية. لكنّ السيد اختار أن يُرضي الله، ويحمي لبنان، السيد الذي اعتاد أن يضحي بدمه لحماية لبنان، اختار اليوم تقديم تضحية من نوع آخر، قرر أن يُضحّي بماء وجهه، كما اشار هو. نعم، التضحية لا تزال حاضرة في أدبيات هذا الرجل، ضحّى بسمعته وسمعة جمهوره، لحماية المتظاهرين السلميين من دنس الإرهاب الناعم الذي اجتاح التظاهرات، فقرر أن ينسحب بجمهوره من الشارع، لكي لا يتسنى للسفارات فرصة الإيقاع به في الفخ، مع ايمانه المطلق بأهمية هذه التحركات الشعبية، وتأييده لها، وإيمانه بنتائجها التي لم يستطع هو أن يحققها، فحققها هذا الشعب العظيم، المقاوم، الطيّب. حمى السيّد التظاهرات، وحمى سلميّة الشارع، وحمى الشعب الثائر، وجنّبهم الحرب الأهلية، وجنّب لبنان من سوريا ثانية، ففقأ عين الفتنة التي ربما كانت نائمة طوال سنوات الحرب في سوريا، فلم تُدرك، ان هذا الحزب الذي ساهم في إنقاذ دولة أكبر من لبنان بأضعاف من الحرب الإرهابية التي بدأت بثورة شعبية، يستطيع أن ينقذ لبنان من الفوضى ذاتها، وهكذا يكون الحزب، بسيّده، انسحب لحماية الشارع، والذي تحمّل الدماء، عليه أن يتحمّل ما هو أسهل منه. وللإنصاف هنا، بعض جمهور المقاومة أخطأ التقدير، فحوّل الخطاب الحكيم الى ترهيب، فخولت له نفسه أن يسيئ الى الشعب الطيّب المتظاهر، والاستهزاء بصرخات الوجع المستمرة، وهذا خطأ ربما هو جزء من التضحية التي اختارها السيد، لكنها ليست حكيمة ولا تترجم خطاب الحق، فعلى جمهور المقاومة أن يدرك أن السيد أراد حماية الناس لا ترهيبهم، فهو أراد أن يُرهب الأيادي السوداء فقط، التي أفسدت الصورة، والرسالة قطعاً وصلت، وسقطت الفتنة، وقُتل النزاع الطائفي قبل أن يلد.

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع