تتداول بعض وسائل الاعلام منذ انطلاقة الحراك الشعبي في لبنان أرقامًا فلكية وخيالية لتقدير أعداد المتظاهرين، بعيدًا عن أي منطق أو أي قواعد احصائية علمية. ورغم انحسار وتراجع نسبة المشاركين في التظاهرات، وفق ما عكست الصورة في اليومين الاخيرين، وصعوبة بل واستحالة تحقيق ما أسماه المنظمون بـ"مليونية الانتفاضة الكبرى" التي وعدوا بحشدها أمس، تصر بعض القنوات التلفزيونية على القفز فوق الحقائق، وترويج أضاليل وفبركات لا اساس لها من الصحة، معتمدة ألاعيب اعلامية مكشوفة، لتضخيم حجم الحراك، وأرقام المتظاهرين، مستندة بذلك الى عدة الشغل المعهودة كـ"الزوم إن" و"الزوم أوت" لا سيما أثناء النقل المباشر، للتركيز على مساحات ضيقة يتركز فيها المتظاهرون، دون التجرؤ في معظم الأحيان، على توسيع رقعة عدسات كاميراتها، حتى لا يفتضح المستور وتظهر الأرقام على حقيقتها.
وهنا، يكفي للمتابع والمراقب لبعض القنوات المحلية، التدقيق في الصورة والكلمة فقط، وسرعان ما سيكتشف أن عبارة "الأعداد تتزايد"، أضحت "ترند" وتعليمة تتردد على ألسنة مراسلي تلك القنوات في كل رسالة مباشرة، ما بدا بمثابة تجييش واضح للحشد، يعبّر بطريقة عكسية عن حجم الصدمة والخيبة لدى هؤلاء والقيمين عليهم جراء التراجع والفتور الكبير والواضح حيال المشاركة في التظاهرات الجارية، وخصوصًا بعد الخطاب الأخير للامين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، والذي فنّد بموجبه مشهد الحراك بشكل تفصيلي، ما دفع الكثيرين للانسحاب منه بعدما بات في موضع الشبهات ومحركًا من قبل السفارات.
ولا يحتاج دحض زيف الادعاءات والارقام الخيالية المروجة لكثير عناء وجهد، حتى نتبين ضآلة أعداد وحجم المتظاهرين، وارقامهم الحقيقية. فيكفي هنا اللجوء الى الاستدلال المنطقي والعلمي، من خلال قياس مساحة المناطق التي خرجت فيها المظاهرات، وتقدير الحشود في أوقات ذروتها على قاعدة افتراض وجود ثلاثة اشخاص في المتر المربع الواحد، ومن ثم جمع الأرقام بمجملها، وسرعان ما سنكتشف أن مساحات ساحات التظاهر بمجملها لا يمكنها أن تستوعب أكثر من 150 ألف مشارك.
جدول يظهر مساحة ساحات التظاهر ويقدر أعداد المتظاهرين على اساس وجود 4 اشخاص في المتربع المربع الواحد
صورة جوية لساحة الشهداء والطريق التي تصلها بساحة رياض الصلح
هذا نظريًا، أما عمليًا، وبالنزول الى ميادين التظاهر لتفنيد تلك الارقام، تبرز ساحتا الشهداء ورياض الصلح كأكبر الساحات وكنقطة مركزية للتظاهرات الشعبية، ورغم كونهما تمتدان بمجملهما على مساحة لا تتجاوز 53 ألف متر مربع، لكن الصور الواردة تظهر تركّز التظاهرات على جزء بسيط منهما، قد لا يتجاوز الـ10 آلاف متر مربع، وعلى هذا الأساس، فإن أعداد المشاركين في الساحتين المذكورتين لم يبلغ بأقصى حالاته ال30 ألف مشارك في أوقات الذروة، على اساس معدل وجود 3 أشخاص في كل متر مربع.
اما بالعودة الى الصور، فإذا ما قسمنا ساحة الشهداء الى مربعين من ناحية الطول كما هو وارد في الصور أدناه، سيتضح لنا أن أكثر من نصف الساحة ( مربع 1 ) بدا خاليًا كليًا، أما النصف الآخر الذي تركزت فيه جموع الحشود، إذا ما لجأنا الى نفس الاسلوب وجزأناه ايضًا الى مربعين (2و3)، يتضح لنا في المربع الاول (2) وجود كثافة مشاركين حول المنصة في منتصف الساحة، فإذا قمنا بتعداد طولي للأعداد سيتضح وجود 60 مشاركًا مقابل 50 مشاركًا بشكل عرضي، ما يعني وجود 3000 مشارك في هذا المربع، أما المربع الثاني، وإن بدا أكبر من حيث المساحة، لكن من الواضح فيه قلة كثافة المشاركين وتفرقهم عن بعضهم بعضًا ووجود مساحات فارغة كبيرة بينهم، ورغم ذلك سنعتبر أن الاعداد مماثلة للمربع الاول ما يعني 6000 مشارك في المربعين.
ساحة الشهداء مقسمة الى ثلاثة أجزاء
ساحة الشهداء مقسمة الى مربعين
صورة جوية تفضح الفراغات في ساحة الشهداء
مركز التظاهرة في ساحة الشهداء ويظهر كثافة المشاركين في هذا المربع قرب المنصة
أما بالنسبة الى ساحة رياض الصلح، فتظهر إحدى الصور المأخوذة من قناة "الجديد" صفوف المشاركين وقد انتظمت بمحاذاة المنصة الرئيسية على شكل دوائر، ما سهل تعدادها ليتبين أن عدد المنتظمين في الدائرة الواحدة لا يتجاوز 100 مشاركًا، انتظموا في ما يقارب 15 و20 دائرة، وبذلك يتضح أن كثافة المشاركين في النقطة الرئيسية والمركزية للتظاهرة لا تتعدى الألف وخمسمئة الى ألفي متظاهر.
أما الشارع الذي يصل ساحة الشهداء برياض الصلح، فهو بطول 300 متر وعرض 8 أمتار ما يعني بحال عدم وجود فراغات (عكس الصورة التي تظهر مساحات الاسفلت بشكل واضح) حوالي 7 آلاف مشارك بأقصى الحالات.
وبذلك يتضح أن أعداد المشاركين في ساحتي رياض الصلح والشهداء لا تتعدى ال20 الف متظاهر بأقصى حالاته، سيما وأن ثمة مساحات فارغة كبيرة بدت واضحة في الساحتين، هذا عدا عن السيارات المركونة فيهما، وأعداد الخيم المنصوبة ووسائل النقل والاعلاميات، ما يحسر مساحات التظاهر ويساهم بتضخيم صورة الأعداد بعيدًا عن الواقعية والتجرد والموضوعية.
وليس بعيدًا عن الساحتين، يظهر جسر الرينغ، ايضًا، وقد اقتصر عدد المعتصمين فيه على بضعة اشخاص يقدرون بالعشرات، وفق ما تظهره جميع الصور الواردة من هناك. أما تظاهرتا منطقتي الذوق (2700 متر) وجل الديب (مساحة 4600 متر)، المعروفتي التوجه والانتماء، فإن أعداد المتظاهرين فيهما لاغراض سياسية وليست مطلبية، لم تتجاوز الالفي مشارك وفي أحسن التقديرات الثلاثة آلاف، رغم حشد "القوات اللبنانية" لجميع مناصريها ومؤيديها للتظاهر، بغية إلباس الحراك لبوسًا وأجندة سياسية اولى اولوياتها إفشال العهد.
متظاهرون على جسر الرينغ لا يتعدون العشرات
وبالانتقال الى ساحة النور في طرابلس، ومن مقارنة الصور في الايام الاولى للتظاهر، مع صورة أمس الاحد، يتضح حجم التراجع الكبير في حماسة وأعداد المشاركين، فالساحة التي تبلغ مساحتها الاجمالية ما يقارب 5 آلاف متر مربع، وتتسع لحوالي 15 الى 20 ألف شخص بأحسن حالاتها، ظهرت أمس شبه فارغة بمساحات كبيرة، وبدا ثمة مسافات فاصلة بين المتظاهرين المتفرقين مع تركيز التجمع على مساحة صغيرة، فلم يتجاوز عدد المتظاهرون الثلاثة آلاف الى اربعة الاف شخص.
ساحة النور طرابلس وحشود هزيلة
ومن الشمال الى الجنوب، يتضح أن التظاهرات الاساسية انحصرت في ساحة ايليا بمدينة صيدا، وهي عبارة عن تقاطع رئيسي في المدينة يصل بيروت بالجنوب ومدينة صيدا بضواحيها الشرقية، وتقتصر على كونها مجرد ساحة صغيرة لا تتسع لاعداد كبيرة، لم يتجاوز أعداد المشاركين فيها خمسة آلاف مشارك في وقت الذروة حتى أثناء مشاركة الفنان مارسيل خليفة بأغانيه الثورية.
تقاطع ايليا في صيدا وهو ساحة صغيرة نسبيًا لا تتسع لاعداد كبيرة
وبناء على ما تقدم، فإذا كانت جميع مناطق التظاهر سواء في ساحتي رياض الصلح والشهداء، وساحة النور في طرابلس، وجل الديب وجسر الرينغ، وذوق مصبح، وساحة ايليا في صيدا، لا تستوعب بمجملها أكثر من 150 ألف متظاهر بأي حال من الأحوال، في حال امتلائها بالحشود عن بكرة ابيها. فقد أظهرت الصور المأخوذة بشكل علمي في أوقات الذروة ما بين الرابعة من عصر الاحد والثامنة مساء، أن أعداد المشاركين، في تظاهرات يوم أمس الاحد لم تتجاوز 40 الى 50 ألف متظاهر في أشد حالاتها. فكيف وصل العدد الى مليون، ومليون ونصف ومليونين إذًا؟! ولمَ كل هذا الدجل الاعلامي، ومحاولة استغباء اللبنانيين،. خصوصًا وأن لعبة الأرقام اتضح مرارًا جهاراً أنها ليست سوى كذبة كبيرة، ممجوجة ومفضوحة أمام اللبنانيين، ولم تعد تنطلي على أحد؟!.