يعدّ شهر تشرين الأول من العام 2019 شهر الاحتجاجات الشعبية العابرة للقارات بامتياز، إذ امتدت فيه التظاهرات الشعبية في كل من لبنان، والعراق، وتشيلي، وهونغ كونغ، وكاتالونيا، فضلًا عن أنه شهر التظاهرات العابرة للطوائف في كل من لبنان والعراق. وبغضّ النظر عن الاختلاف في التسمية، انتفاضة أو حراك أو ثورة، تنبئ التظاهرات الشعبية عن حياة الشارع واستمرارية نبضه ضد فساد الحكومات والسياسات، إلا أن اللافت غياب أو تعمّد "تغييب" خضوع الحراك الشعبي كأي حدث في المنطقة للموازين الجيو- استراتيجية: الاقتصادية والسياسية، ضمن موازين القوى العالمية.
اشتعل الشارع اللبناني والعراقي في وقت انحسار وتراجع المحور الصهيو-أميركي- خليجي أمام محور المقاومة في لبنان وسوريا إلى العراق واليمن. عمدت الولايات المتحدة الأميركية إلى اتخاذ سلسلة من التدابير التي لا يمكن فصلها عن سياق المسار الإقليمي. يُذكر من هذه الاجراءات: زيادة الضغط الاقتصادي على لبنان عبر فرض عدة عقوبات اقتصادية على جهات محددة بذريعة الانضمام أو دعم أو تمويل حزب الله "الإرهابي" على حد الوصف الأميركي، وانسحاب معظم القوات الأميركية من سوريا، بالتزامن مع اشتعال الجبهة التركية في الشمال السوري ضد حليفة الأميركيين، قوات سوريا الديمقراطية، قسد، ناهيك عن تفاخر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالاغتيال "المزعوم" لزعيم داعش، "وليد" الولايات المتحدة الأميركية أبي بكر البغدادي، فضلًا عن إعلان الأول نيته المزمعة الاتفاق مع شركات للتنقيب عن النفط في سوريا، والحديث عن حصة الولايات المتحدة الأميركية في النفط السوري بكل صراحة و"وقاحة".
في ظل هذه الحزمة المترابطة من الأحداث، نزلت التظاهرات إلى الشارعين: اللبناني والعراقي، ضد الفساد الحكومي والتركيبة السياسية. شكّلت المطالب الشعبية المعيشية المحقّة ركيزة الحراكين، لكن مظاهر الفوضى الواضحة التي سادت الشارعين، وانحراف الأسباب الأولية للحراكين عن بوصلة المطالب الاقتصادية وتحسين الأوضاع المعيشية باتجاه زعزعة مصداقية بعض مقدسات ومرجعيات الشارعين، والاستهداف المركّز للمقاومة في لبنان، والحشد الشعبي في العراق يطرح العديد من التساؤلات والشبهات حول الحراكين. فإذا كانت الأهداف الأولى تخدم الشعبين، فمن هو المستفيد من الأخرى؟ وهل وجود الأخيرة يعبّر عن مطلب شعبي داخلي، أم أنه يطبق داخليًّا ما عجز عنه الخارج، سواء عن قصد أو غير قصد؟ وهل يمكن في ظل التدخلات الأميركية في رسم سياسات المنطقة والأوضاع الإقليمية، وكل من لبنان والعراق لاعب أساس فيها، هل يمكن التغاضي عن إمكانية وجود دور خفي للسياسة الأميركية في شعارات وحركة الحراك الشعبي؟ وبالطبع، مع التأكيد على أن أي إثبات للدور الخارجي لا يعني نفي مسؤولية الفساد السياسي الداخلي في كلا البلدين.
فيما يخص الشارع اللبناني، يمكن رصد تكتيكات بارزة ضمن مسار الحراك الشعبي لا ينبغي التهاون بها، أبرزها:
التخطيط الواضح:
يعدّ التخطيط من المبادئ الأساسية لنجاح أي حراك لاعنفي. إن الحركات اللاعنفية لا يتم تنظيمها تلقائيًّا، بل لها إعداد وتخطيط مفصل، يظهر من خلال تكتيك بناء القدرات من نشطاء وموارد مادية وبشرية وجيش الكتروني، واعتماد التسلسل الاستراتيجي لمجموعة متنوعة من التكتيكات تسمح بزيادة الضغط على الخصم، وتخريب الولاء له، والتشجيع على العصيان، والحفاظ على قوة الدفع، واستمالة المدافعين عن المنافس مثل الجيش وقوى الأمن، عبر الأناشيد والأغاني، وتوزيع الورود. وتهدف هذه التكتيكات إلى تعبئة الفئات المستهدَفة وتجنيد نشطائها، وصولًا إلى الانقطاع عن أنشطة الخصم كليًّا، والانشقاق عنه.
التركيز على الفوضى:
يتم التركيز على الفوضى من خلال تجاوز خطوط حمراء تمسّ بالأمن والسلم الوطني دفعًا باتجاه صدام شارعين وصولًا إلى الاقتتال الداخلي أو الحرب الأهلية. وقد ظهرت هذه الفوضى المنظمة على مستوى الخطاب والحراك على الأرض. شهد الحراك من بعض الفئات المتظاهرة هتافات "سوقية" لا أخلاقية، تعرّض فيها الخصم للشتائم والسباب، فكانت سابقة في التاريخ اللبناني، وجدت مرتعًا عند فئة الشباب. وبالطبع، يهدف هذا الأسلوب إلى خلخلة السلطة الكاريزماتية للشخصية المستهدَفة، ونزع ثوب القداسة والرمزية عنها، "التابو"، أو ما يسميه البعض الهيكل الأخلاقي الذي يدفع المحكومين لطاعة الحاكم.
ويعدّ الهدف الأبرز زعزعة ثقة الشعب بالحاكم والتشكيك بمصداقيته لتجاوز طاعته، وتحطيم السلطة السياسية. أما الحراك على الأرض فقد كان فوضويًّا في قطع الطرقات، وإقامة حواجز الإذلال للمواطنين، وأخذ "الخوّات"، والتحكّم بحياة غير المتظاهرين، والتعرّض لمراسلي القنوات التلفزيونية والمراسلات بالضرب وتحطيم آلات التصوير. وكل هذه المظاهر من الفوضى في الحركات اللاعنفية لا تصدر بطريقة عفوية، وإنما تكون مدروسة ومخططًا لها ضمن أجندة تحدد آلياتها والأساليب التي تفعّلها.
التضليل الإعلامي:
يلعب الإعلام دورًا رائدًا في دعم الحركات اللاعنفية. نقلت بعض وسائل الاعلام اللبنانية وقائع التظاهرات بعيدًا عن الموضوعية في نقل الصوت والصورة؛ فكان لها دور انتقائي، واضح للمشاهدين، في نقل آراء المتظاهرين، ودور توجيهي ضد الرموز المستهدفة. تفرّغت بعض القنوات كليًّا لنقل التظاهرات على مدى 24 ساعة، ومن كل الساحات، فتماثلت بذلك مع قناة CNN أثناء حرب تحرير الكويت، أو قناة "الجزيرة" في حرب تموز على لبنان، 2006م. وقد أشارت التقارير، التي لم تعد خافية على أحد، إلى التمويل المادي الضخم الذي تلقّته، والدورات التدريبية في إعداد المراسلين لمواكبة هذا النوع من الحراك. وكان الدور الإعلامي الذي فتح الهواء مباشرة لكل سب وشتم لافتًا أكثر من التفلّت الكلامي غير الأخلاقي، ذاته.
وتجدر الإشارة إلى الدور الكبير الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي، وهو أمر طبيعي عند جيل التواصل الاجتماعي المتابع لحظة بلحظة على مستوى العالم. بيد أن مواقع التواصل الاجتماعي وكل الحسابات عليها خاضعة لسلطة الإدارة الأميركية ورقابتها. وبالتالي، تحظر الديمقراطية الأميركية في التعبير بعض الحسابات المناهضة لسياساتها، كما تجنّد جيشها الإلكتروني لتوجيه وتحديد المطالب. وقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي، "الفايس بوك والانستغرام"، انتشار العديد من المواقع الوهمية وبأسماء مزيّفة؛ هدفت إلى نشر الفتنة، والتحريض على الفوضى، وزعزعة بعض فئات المجتمع بقادتها.
دور الوكالات غير الحكومية: (NGOs)
على الرغم من أنها تقدم نفسها على أنها منظمات غير حكومية، مستقلة، لا تبغي الربح، وهدفها نقل اهتمامات الناس للحكومات، ومراقبة السياسات وضبطها، وتشجيع المشاركة السياسية، إلا أن الدراسات تؤكد ارتباطها المباشر بالمراكز الاستخباراتية، وتطبيق أجندات صانعي السياسات، وإن كانت تنكر ذلك كيلا تفقد مصداقيتها. تدخلت هذه الوكالات بقوة في الحراك اللبناني من خلال دورات تدريبية ولقاءات في ساحات الاعتصامات وثّقتها وسائل التواصل الاجتماعي، أبرزها لقاء رئيس إدارة الجامعة الأميركية فضلو خوري بأحد ممثلي تلك الوكالات. أضف إلى ذلك توزّع ناشطين وناشطات في إدارة الحراك، ممن يعملون في برامج تدريبية أميركية تديرها وتموّلها السفارة الأميركية في بيروت بشكل مباشر. بالتالي، إن مهام هذه الوكالات مساعدة الإدارة الأميركية في تنفيذ سياساتها المنطقة تحت شعار تدريب الشباب لكسب المجتمع وتغييره والتدريب على الثورات، وترسيخ الديمقراطية، وبالطبع الديمقراطية الأميركية "الجوفاء".
تغذية انقسام الشارع السياسي اللبناني:
انسحب انقسام الشارع السياسي اللبناني على الحراك بمشاعره الوطنية وبشعاراته السياسية والمطلبية التي كانت عابرة للطوائف. وعلّت الهتافات الطائفية والمذهبية في بعض الساحات لتؤكد، من جهة، وجود مستثمرين للحراك خدمة لمآرب سياسية خاصة، ووجود النعرة الطائفية والمذهبية قابعة في زاوية لاوعي الذاكرة اللبنانية، من جهة أخرى.. في الوقت الذي نزل فيه الشعب ضد التركيبة السياسية الفاسدة والطائفية السياسية تحت راية العلم اللبناني الذي يفترًض أنه يوحّدهم، بزعمهم، تحوّلت المطالب إلى عناوين وهويات طائفية ومذهبية وسياسية لا تمت للوطنية بصلة، بل تؤذن بجر البلاد نحو المجهول. وإذا كانت الولاءات الطائفية والمذهبية والسياسية لدى الشعب اللبناني ساهمت في حرف الحراك الشعبي عن مساره المطلبي، إلا أن الولاءات والنعرات يتم تفعيلها وإثارتها لتطفو على السطح، في كل استحقاق سياسي. وعليه، إن الانقسام السياسي في الشارع اللبناني حول محور المقاومة في المنطقة تكفّل بتغذية وتأجيج دفائن العصبيات لدرجة تغليبها على مصلحة المطالب الوطنية المحقة.
بالمحصلة، تساهم هذه العوامل مجتمعة في تغييب الدور الأميركي التعطيلي للإصلاح، بل والتأزيمي في الوضع اللبناني المتأزم سياسيًّا واقتصاديًّا. اتبع الحراك تكتيكات التخطيط المعتمدة في الحركات اللاعنفية من تمويل الحركة بموارد بشرية ومالية، وسحب دعائم السلطة، وذلك في ظل عملية إشاعة فوضى ممنهجة تدعمها الوكالات غير الحكومية والماكينة الإعلامية الضخمة. أما الهدف فهو ما ظهر في فلتات اللسان الشعبي ذي المطلب السياسي، وليس الاقتصادي. أضف إلى ذلك عودة مظاهر "المليشيات" الحزبية في بعض المناطق، وهي مظاهر لا تمت للضغط بغية تحقيق المطالب بصلة. وتعمل تلك الأساليب والتكتيكات وفق استراتيجية الحراك اللاعنفي على تفعيل آليات إضعاف الداخل، وتناحر الشوارع، وسلب الثقة عن السلطة، وكسر هيبة الرموز، وتفكيك الدولة على أيدي أبنائها.
إن الوضع الاقتصادي اللبناني المتأزم واقع وحقيقة، كما هو حال استياء الشارع اللبناني من السياسة الحاكمة الفاسدة. بيد أن عدم فهم واقع مجريات الأمور بتمامها له من التداعيات ما هو أكثر سلبية وخطورة مما يعيشه المواطن اللبناني على المستوى الاقتصادي أو الفساد السياسي. إن المطلوب هو الضغط اقتصادّيًا على لبنان الذي رفض بلسان رئيسه الجنرال عون في إحدى جلسات الأمم المتحدة نعت "حزب الله"، أحد مكوناته السياسية، بالإرهاب، كما رفض أن يكون تابعًا ومنفّذًا للإملاءات الأميركية، على لسان وزير الخارجية جبران باسيل. وهذه الأحداث في سياق الصراع الإقليمي فجّرت سيناريو "الفوضى الخلاقة" المعدّ للبنان، علمًا أن السفير الروسي في لبنان "زاسبيكين" كان قد أعلن قبل أسبوع من بدء الأحداث عن توفر معلومات حول حدوث فوضى أميركية في لبنان بخلفية اقتصادية اجتماعية.
وهذه الفوضى الخلاقة"، بحسب منظريها، أداة للصراع الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي من أجل ضمان واستمرار المصالح الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال الارتكاز على آليات أساسية، هي: تأجيج الصراع العرقي والطائفي والعصبيات، وضرب البعد الأمني، وفرض العقوبات الاقتصادية والمالية، والعمل على واجهة "القوة الناعمة"، واستثمار الآلة الإعلامية والاتصالية. وتشكّل هذه الآليات قوام استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية الجديدة، ما بعد أحداث 11 أيلول، في استخدام قدرتها على إرغام الآخرين المعارضين على الامتثال لسياساتها. ويبقى الوعي بالمخطط الفوضوي- التفكيكي سيد الموقف لتنظيم سلم الأولويات والحؤول دون الانجرار نحو التناحر والتآكل الداخلي.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع