يبرز اليوم تناقض كبير بين كثير من التيارات السياسية بشأن التغيير الثوري. فبينما ترى تيارات ليبرالية ان الغاية التغييرية تبرر الوسائل وان التدقيق في سير الحراكات ورعاتها او اختراقاتها سيؤدي الى اصطفاف مع النظم القائمة بما يعيق التغيير، فإن تيارات اخرى اكثر تدقيقا، ترى ان الحراكات ينبغي تطهيرها من الاختراقات وضبط بوصلتها حتى لا تنحرف وتؤدي الى نتائج معاكسة.
بالطبع هذا الكلام يشمل العناصر الوطنية ولا يتعلق بعملاء الحراكات ممن تم تدريبهم على اختلاق وركوب الثورات، وتحويلها الى ثورات ملونة.
وبين هذا وذاك يأتي الشارع بتوازناته الفعلية ليكون شاهدا على تطور الحراكات، فبينما تسير الامور باتجاه اما فوضوي او لصالح اجندات غربية وتحديدا امريكية، تستسلم بعض من التيارات الوطنية لمفهوم الحراك وتأبى ان تدينه باعتباره "عجلا مقدسا" مظنة انها ستتخلى عن ثوريتها لو انها ادانت حركة تم اختطافها ولم يستطع شرفاؤها ضبط مقاليد الأمور وامتلاك مقودها، فسارت على غير ما أرادوه.
هنا تقف المقاومة وانصارها وكثير من شرفاء التيارات المختلفة موقفا صلبا، فهم يرون ان المطالب الشعبية المتعلقة بحقوق المستضعفين وتحرير البلاد من الفساد والتبعية أمر لا يمكن الاختلاف معه، ولكن يرون في ذات الوقت ان الغاية لا تبرر الوسيلة، وان الحراك بل والثورة الشاملة هي وسيلة، ان لم تكن مضمونة النجاح فإن العبرة بالغاية النهائية التي تتعدد فيها الوسائل.
قليلون هم من تفهموا موقف المقاومة على صحته ودقته، وكثيرون هم من زايدوا عليه باعتبار المقاومة في موقع السلطة وانها تحارب لوجودها بهذا الموقع!
والبعض ممن حاول التعقل وسط المزايدات، حاول ان يدين مواقف المقاومة باعتباره نقدا ذاتيا وانها ليست فوق النقد.
وهنا نقول كلمة مقتضبة، نعم المقاومة ليست فوق النقد، وهي بحاجة لكل النصائح الشريفة المخلصة، ولكن ليس بالضرورة كل نصيحة تكون نابعة من تقدير سليم ووعي بكافة الجوانب، كما ان المقاومة في موقع مسؤول وحساس وتمر تقديراتها بالعديد من الفلاتر والتمحيص وتوخي الدقة والمسؤولية، وهي لو انها في موقع السلطة الحقيقية  ومطلقة اليد في اتخاذ القرارات السياسية الداخلية، لكانت استطاعت انفاذ خططها التنموية ورؤيتها المستقلة بعيدا عن فلك الاقتصاد الحر وما يعنيه من تبعية لمؤسسات الغرب، ولكانت استطاعت حل مشكلات الكهرباء عبر توجهها الاستراتيجي نحو ايران والشرق، ولكانت استطاعت القضاء على مراكز القوى المعادية للمقاومة والتي تحمل ولاءات للصهاينة وللامريكيين.
ولكن المقاومة جزء من سلطة، واستطاعت نيل نصيبها من الحكومة عبر انتخابات ديمقراطية، وربما اعاقها النظام الطائفي، والذي لولاه لكان للمقاومة نصيب اكبر عبر شعبيتها.
وبالتالي فإن النظام الطائفي هو لصالح اعداء المقاومة لأنه يضمن لهم نصيبا من السلطة وليس من مصلحة المقاومة كما يريد البعض الترويج لذلك.
ولعل المطلع على التقارير الاستراتيجية الامريكية والصهيونية، يرى كثيرا من التطبيقات الواقعية، بما يخرج من دائرة نظرية المؤامرة الى واقع المؤامرة.
وهنا نستعرض تقريرا امريكيا كجزء من العديد من التقارير المتواترة، ولعل انتقاء هذا التقرير هو بسبب وضوحه وصراحته، وسنكتفي بتعليقات توضيحية مقتضبة عليه، ثم نتبعه برأي صهيوني، لعله يكون كاشفا لبعض مما يجري في لبنان والاقليم:
أولا: في تقرير أمريكي كاشف، كتبه بلال صعب "كبير زملاء ومدير برنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط" في مايو من العام الماضي 2018، جاءت فقرات كاشفة لجوانب عريضة مما يحدث اليوم.
التقرير الذي حمل عنوان "الولايات المتحدة لم تفقد لبنان"، كانت افتتاحيته تقول: "على الرغم من الأداء القوي لحزب الله في الانتخابات، فإن السياسات الأمريكية ناجحة ويجب على واشنطن أن تستمر في هذا الاتجاه".
ويستمر التقرير في العرض موضحا: "يجادل النقاد بأن السياسة الأمريكية في لبنان قد فشلت بالفعل، لأن واشنطن لم تكن قادرة على تجريم حزب الله أو فصله عن إيران. لكن ذلك لم يكن هدفًا واقعيًا أبدًا، أو على الأقل هدف واحد يمكن أن تسعى إليه الولايات المتحدة دون التسبب في حرب أهلية أخرى في لبنان وربما مواجهة عسكرية مع إيران، وكلاهما سيشكلان نتائج مدمرة لمصالح الشرق الأوسط والولايات المتحدة على نطاق أوسع".
ويستطرد التقرير: "لقد تعلمت واشنطن من أخطاء الماضي، لكن لا يزال أمامها طريق طويل. استراتيجيتها ذات الشقين هي دعم الدولة اللبنانية والضغط على حزب الله. في بعض الأحيان، هما يسيران جنبا إلى جنب".
وهنا قد كشف التقرير ان محاولات امريكا في لبنان تغيرت تكتيكاتها، باستبدال المواجهة المباشرة الى مواجهة غير مباشرة، فبينما تضغط على المقاومة بيد عبر الحصار والعقوبات، فهي باليد الاخرى تضغط عبر الدولة اللبنانية وخلق بيئة معاكسة للمقاومة.
ومن ضمن الادوات التي تحاول امريكا استخدامها يقول التقرير: "من المؤكد أن الجيش اللبناني ليس مثاليًا، لكنه أثبت أنه شريك فعال وموثوق في مكافحة الإرهاب".
وقد اوضح التقرير في طياته ان الجيش ليس مثاليا، لانه يتفق مع حزب الله في معاداة الصهاينة، ولكن التقرير يبرز محاولات امريكا الحثيثة للوقيعة بين الجيش والمقاومة، عبر استقطاب الجيش بعيدا عنها ومحاولة زرع عقيدة عسكرية مفادها "مكافحة الارهاب".
وينتقل التقرير الى اهم فقرة كاشفة به تقول: "لا ينبغي الحكم على السياسة الأمريكية من خلال قدرتها على هزيمة حزب الله أو فصله عن إيران. يجب أن تكون معايير النجاح بدلاً من ذلك هي ما إذا كان بإمكان واشنطن إنشاء مجموعة من الظروف السياسية والاجتماعية والأمنية في لبنان تسمح للحلفاء المحليين بالتعامل سلمياً مع التحدي الذي يمثله حزب الله على هذه الجبهة".
وهذه الفقرة كفيلة بكشف ما تم اعداده من ظروف ترتدي ثوب حراك ثوري واختراقه وانتزاع قيادته وتوجيهها لخلق فوضى تتيح استبدال النظام الحالي بنظام اخر يرتدي ثوبا ليبراليا (غير طائفي) هو في حقيقته يشكل استبعادا للمقاومة، وهذا الاستبعاد ليس قاصرا على الحكومة، وانما نظام معادي ومحاصر للمقاومة.
وحري ايضا في هذا المضمار، استعراض تصريح صهيوني، حيث هناك وجهة نظر صهيونية ساقها البروفيسور إيال زيسر ، نائب رئيس جامعة تل أبيب والخبير في السياسة في سوريا ولبنان، وقد صرح لصحيفة "ميديا لاين" الامريكية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، إنه "من المنطقي من وجهة نظر روسيا المضي قدمًا إلى لبنان بعد تأسيس نفسها في سوريا".
وأوضح أن لبنان أكثر تعقيدًا لأنه على عكس سوريا، هناك المزيد من الجهات الفاعلة مثل المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى، وأضاف أن شريحة كبيرة من اللبنانيين أكثر غربية وحداثة وتتمتع بمستوى معيشة مرتفع. ومن الواضح أن روسيا ليس لديها ما تقدمه هنا. وعندما يتعلق الأمر بالنمو والازدهار الاقتصادي، يمكن لروسيا أن تقدم القليل جدًا. ولهذا السبب، تدرك جميع الأطراف، بما في ذلك لبنان، أنه عندما يتعلق الأمر بمستويات المعيشة، من المهم الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة.
وهذا التقدير الصهيوني، هو في غاية الأهمية وهو كاشف لتلوين الحراك بلون ليبرالي حداثي غربي، لقطع الطريق على أطراف اخرى مثل الروس والصينيين وايران، وغيرهم ممن يتم الترويج ضدهم بأنهم اعداء للديمقراطية وللحداثة وللتطلعات المجتمعية التي تتميز بالرفاهية، وهو بعد يراد ان يصدره الحراك كي يقطع الطريق الجيوسياسي على الاخرين ويحصره باتجاه قبلة الحريات والحداثة والرفاه المجتمعي الأمريكية المزعومة!
وجب الانتباه والاحاطة لما يحاك ويعد، ووجبت المراجعة قبل فوات الأوان.

 

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع