"الأزمة تتجلى تحديدا في أن القديم آيل الى الزوال, بينما لا يستطيع الجديد ان يولد, وفي فترة التريث هذه يبرز عدد كبير من الاعراض المرضية".
حديثا, سيما منذ انطلاقة احداث "الربيع العربي", الكثير من الكتاب العرب يستحضرون هذه الفكرة للفيلسوف الايطالي انطونيو غرامشي اثناء اقامته في احد سجون نظام موسوليني الفاشيستي, وذلك في ثلاثينيات القرن الماضي.
وللأسف, فإن القاسم المشترك بين الساحات العربية لا زال يتمثل في "فترة التريث" تلك, والموبوءة بالامراض لا بأعراضها فقط, فالحرب والموت مرضان, والانهيار مرض, والفقر والجوع والبطالة والتقاتل وغيرها, كلها امراض تجاوزت اعراضها عندما تعاظمت ثروات الحكام ومفسدتهم الى الحد الذي بخلوا فيه حتى بتقديم مسكنات تقيهم اولا شر انفسهم وتقي البلاد واهلها من مخاضات عسيرة لا تخلو من المخاطر والمشقات.
ولربما حسنا فعلوا وغفلوا عن ذلك, وان كانت ما بعد فترة التريث محفوفة بالغموض ويكتنفها المجهول, الا انها ستخلو حتما من وجوههم الدميمة واستباحتهم لسيادة بلادهم وخيانة شعوبها ونهب مؤسساتها. وهذه اسباب كافية وموجبة لسير الشعوب في خيار مواجهة هذه المنظومات واستنقاذ ما تبقى لهم من كرامات تعوض جزئيا وظرفيا عما سلب من حقوق.
في معرض هذه القواسم المشتركة, لا احد بغافل عن التمييز بين الادوات والمحركات والحيثيات والاهداف المضادة لكل"ثورة" من "ثورات" العالم العربي التي حصلت وتحصل اليوم, ولا يخفى على احد الثغرات التي شرعت الابواب امام تدخلات القوى العالمية الكبرى وأضفت ترحيبا بوجه سياساتها.
بالانتقال الى الساحة اللبنانية, لا داعي للمرور على جارتنا سوريا او جارتها العراق, ولا العروج ناحية اليمن المنسي او البحرين..., وليس من المنطق العلمي اجراء اي نوع من الاسقاطات واستجرار التاريخ, ومن الجيد عدم انهاك ادمغتنا بتجريم فاعل وتبرئة آخر.
في الابحاث العلمية, لا بد في دراسة ظاهرة ما, او حدث ما, ان يقف الباحث على دراسة العلاقة بين متغيرين اثنين, واحد مستقل وآخر تابع, وفي المساحة بين هذين المتغيرين تظهر تداعيات كثيرة وروابط ونقاشات ومتغيرات ثانوية, وفي المحصلة يكون الباحث امام عدة نتائج, احداها ان يعرف اياً من المتغيرين هو السبب او نتيجته, او خلاصته بصحة الربط بينهما انما مع عدم القدرة على التمييز احدهما عن الآخر.
في نظرية المؤامرة, والتي صاحبة الجدارة الحصرية بصنعها هي اميركا, وبهيمنتها الامبريالية اللصيقة والمتوازية مع سياساتها, هي حاضرة في كل ساحات العالم دون مبالغة في التعميم, فإن البحث في العلاقة بين هذه النظرية ومآلات الأوضاع في اي من تلك الساحات يحتاج الى عملية بحثية طويلة ومع الكثير من الداتا وفي مراحل تاريخية متلاحقة, ولعل الكثير من الباحثين اخذوا على عاتقهم هذه المهمة, كل من زاويته المختلفة عن زاوية الآخر, الا ان الجزم بوجود علاقة بين هذين المتغيرين التابع والمستقل هو حقيقة لا يمكن انكارها او تجاوزها.
من هنا, ما يحدث في لبنان من تاريخ 17تشرين الاول بدأت شرارته بفعل السلطة السياسية وتعدياتها حد خنق المواطن الفقير بالضرائب يرافقها شح في مصادر استرزاقه, وحد اثقاله ظلما في لقمة عيشه وتغميسها له بشتى انواع الذل.
هذه السلطة بقصد او بغيره, هي اداة مطواع بيد الاميركي; هو لم يفتعل هذه المرة شرارة الحراك, الذي اول ما انطلق انطلق من بيئة حزب الله, من ساحة المشرفية في الضاحية الجنوبية لبيروت, هذه المرة الاميركي ليس بريئا مما نحن فيه من ازمة اقتصادية ومعيشية, الا انه من الاجحاف بحق كرامة اللبناني ان ينسب عود
الثقاب المنتفض لفيلتمان وبومبيو طوعا, دون ادنى امتنان للجوع الذي كان يطرق امعاء الشعب.. وطرق لا بل تفضل مستريحا.
شهر ونصف الشهر, تعجز قوى السلطة بكليتها عن تشكيل حكومة تلبي شغور المقاعد الوزارية, ولربما تسعى لتحقيق مطالب الشعب على كثرتها (طبعا لا تحال كثرة المطالب الى طمع الشعب بل الى انعدامها في الاصل).
في المقابل, يتوزع جزء من الشعب اللبناني على مختلف المناطق والمحافظات دون استثناء, وتتعدد طرق تعبيره وخلفيات تواجده الا انه يسهل -وان بظروف معقدة- التمييز بين من تحركه اجندة العيش الكريم ومن تحركه اجندة الاميركي وال NGOs, واقل ما يتعرض له هؤلاء الاخيرون من نبذ وحتى طرد هو دليل على سهولة استهدافهم واسقاطهم, الا ان ذلك لا ينفي تعاظم الخطر والفوضى اللذين باتا يحدقان بالمواطن والدولة قبل اي فاسد سيتوجه الى بلاد "الافرنج" منعما بأموال شعب طالما هتف باسمه, وذلك عندما يضيق به مشهد لا يشبهه وهجين على سبل سطوته.
في وسط المشهد المجهول المصير, الانظار كلها تصوب ناحية حزب الله وتتبع كل خطوة يقدم عليها وان كانت خطواته اليوم قيد التجميد نتيجة استماتة ضمير وهروب من المسؤولية من قبل اكثرية القوى السياسية. وهنا تجدر الاشارة ولو تكرارا, الى أن حزب الله هو جزء من السلطة وليس كل السلطة, هو مكون لا يتفرد بمفاصل السياسة والترتيبات الداخلية, وهذا الامر جاء على لسان سماحة الامين العام السيد حسن نصر الله, خاصة في معرض مقارنته بين ادوات مواجهة العدو وتلك الخاصة بمحاربة الفساد, حيث خلصت المقارنة الى نفاذ قوة حزب الله بوجه العدو الاسرائيلي, بالمقابل انعدام اليات ووسائل مادية ودستورية لمحاربة الفساد. كرر ذلك خطباء ونواب حزب الله واعاد تأكيدها البارحة النائب ابراهيم الموسوي قناة المنار حين قال ان"الناس يخلطون بين الله وحزب الله"..
بالتالي, هذا يعني ان حزب الله يعي ويتحصن من حجم التحديات التي تحدق به داخليا وخارجيا, بمقابل استخفاف قوى سياسية وازنة اخرى.
ولأنه حزب الله المقاوم, فهو لا يحتمل الشبهات, حيث المقاومة هي شهادة تشرّف صانعها, هذه الثابتة ارساها الحزب بنفسه (ابعاد او ابتعاد النائب نواف الموسوي عن المشهد البرلماني درس يعتد به), قبل ان يلتمسها الناس, لذلك يراهق بعضنا بالطلب الى حزب الله او انتظاره اصدار بيانات استنكار او تبرؤ من حوادث صبيانية لا تمت بصلة لنهجه.
ليس لهذا الحزب نقاط ضعف الا شعبه, يضعف امام كراماته, لا يرتضي له الا عزة وحرية من ارتهان وحصار, وهذا الشعب هو مصدر قوة المقاومة واستمراريتها.
اما عن المؤامرة الاميركية على حزب الله, بأدواتها من فساد وافقار للمؤسسات الرسمية والادارات العامة, فهي نقطة اضعاف للحزب, ولقطع الطريق عليها سوف يقوم بعملية hand cut وحتى head cut وهذا ما عبر عنه السيد نصر الله عندما اصر على استعداد حزبه للاقتصاص من الفاسد ايا كان موقعه وقربه او بعده من حزب الله.
كذلك سيفعل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون, من يرفع الغطاء عن مارونية منصب حاكمية مصرف لبنان, ومساءلته عن ازمتي المال والنقد كونه مهندس سياستيها, وسيفعلها الرئيس حين يفتح ملفات التوظيف العشوائي الى جانب الملفات التي قدمها فخامته للاجهزة القضائية المختصة, حين يزاول ناجحو امتحانات مجلس الخدمة المدنية عملهم.
فعلتها البارحة وزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني, حين اطلقت الوزارة مناقصة استيراد 10 % من حاجة السوق للمحروقات وبيعها بالليرة اللبنانية..
هذه الاجراءات ما كانت لتحصل لولا الغطاء الشعبي متمثلا بضغط الشارع, والذي يضم قوى وطنية يعول عليها في اي مسيرة اصلاحية كما لها ما لها من باع في المقاومة والتصدي للعدو، فهذه المرة خلاص لبنان شعبيّ محض ولن يكون ريعيا.
في مرحلة التريث, لا تقلقنا الاعراض المرضية، ولتكن تلك دليلنا في صحة التشخيص ودقة العلاج.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع