أسوأ ما يمكن أن تتعرض له الأوطان هو غلق الآذان عن سماع الآخر، والتخندق داخل الرؤية الذاتية، ثم ما يعقب ذلك من حالة تفرضها التطورات، إما نصر يعقبه غرور وتسلط، وإما هزيمة يعقبها شعور بالاضطهاد واصطناع مظلومية وتحيّن لانتقام.
كما لا يجب الوقوع في مأزق التضحية بأحد الخيارين، اما التضحية بالوطن واستقراره، او التضحية بالحراكات ومكتسباتها. وهناك جسر آمن يمكن السير عليه للاحتفاظ بمكتسبات اي حراك دون الوقوع في فخ التضحية باستقرار البلدان او اهدار سيادتها.
والواقع السياسي لا يتطلب الوصول لهكذا حالات مغلقة الأبواب، ولا يحتاج الى معارك صفرية، فالسياسة تتميز بحتمية توفر مرونة تراعي المصلحة الجمعية، وهنا تخرج الامور من نطاق الثوابت والتي تتعلق بالسيادة والكرامة والحقوق الاساسية، وهي متعلقة بالمصلحة الجمعية، لتدخل الى نطاق التفاهمات والحلول التوافقية والتي تتعلق بالتقاطعات بين الأطياف المختلفة.
وبألفاظ اخرى اكثر وضوحا، هناك ثوابت وطنية لا ينبغي للسياسة تجاوزها ولا يملك طرف سياسي التخلي عنها. وهناك أطياف من الخيارات السياسية يمكن التوفيق بينها في مجتمعات تشهد تنوعا فكريا وعقائديا وثقافيا، ينبغي مراعاتها والتوفيق بينها للتمكن من العيش المشترك دون شعور اي طيف بأنه مقهور او مضطهد.
هذه الحالة تظهر جلية في اوطان تتميز بالتنوعات والتي يحلو للغرب الاستعماري تسميتها بمصطلح "الأقليات".
والدولة القوية هي الدولة العادلة والرشيدة في ادارة هذه التنوعات.
ومكمن الخطورة في عدم التوافق الوطني هو التفسخ وغياب الدولة والتي وظيفتها ادارة التنوع عبر مؤسسات، مع الاحتفاظ بمكوناتها الرئيسية وهي المؤسسات والارض والشعب، فلا ينبغي ان يجور مكوّن على اخر، حتى لا يصبح هناك استبداد سلطوي عند غياب البعد الشعبي، ولا فوضى عند غياب النظام المؤسساتي، ولا ارض خراب جاهلية قبل تشكل الدول والحضارة والثقافات.
من هنا وتحديدا في الدول ذات التنوعات مثل العراق ولبنان، فإن الامور بحاجة الى تناول يمتاز بالحساسية والمراعاة لهذه الأبعاد والتي تختلف مثلا عند تناول حالات اخرى بها دولة عميقة ومجتمعات اكثر تجانسا واقل تنوعا.
فالمجتمعات التي لا تتميز بالتنوع العقائدي والمذهبي والعرقي، تكون حالة الاستقطاب فيها مختلفة، فهي غالبا رأسية بين سلطة وشعب، وهنا يكون ملعب السياسة مختلفاً عن المجتمعات ذات التنوعات والتي تكون الاستقطابات بها أفقية بين المكونات ورأسية مع السلطة.
وهذه الابعاد الافقية بين المكونات هي الأهم في التناول لأنها تحدد طريقة التعاطي الرأسية مع السلطة، وبالأحرى هي التي تشكل السلطة.
اذاً في دول مثل مصر والجزائر وتونس والسودان، حيث المكون الاجتماعي اكثر تجانسا رغم وجود تنوعات دينية وعرقية، الا انها ولعوامل تاريخية لم تشكل حالة من حالات الاستقطاب، فإن مجرد وجود دستور للمواطنة يكفل حلا مقبولا، وتبقى الكرة في ملعب السلطة ورشدها في الحكم.
بينما في دول مثل العراق ولبنان، فإن الأمر بحاجة الى دستور بيني بين المكونات قبل وضع دستور وطني، وهذا النوع من الدساتير البينية، لا تراعيه معظم القوى السياسية او التحليلات او محاولات التغيير سواء الاصلاحية او الثورية.
من الاخطاء الشائعة والتي نلمحها في حراكات عربية، التعميم، ومقارنة حراكات الدول ببعضها البعض دون تمييز لخصوصية كل حالة، ويستغل الغرب الاستعماري هذا التعميم ويبني عليه حالات تصعيدية لتحقيق اغراضه.
فكما استغل الغرب حالات التنوع ليفرق بين المجتمعات ووحدتها عبر مفهوم "الاقليات"، وافتعل تناحرات في بلدان متجانسة مثل مصر عبر التفخيم من التنوع الاسلامي المسيحي، ومحاولة تصوير الامر على ان هناك طوائف وفتناً، وكذلك الحال في المغرب العربي عبر افتعال تناحرات بين عرب وامازيغ، فإن الغرب ذاته يحاول تعميم حالة الحراكات الثورية في هذه البلدان على البلدان التي تتمتع بالفعل بتنوعات حساسة ينبغي وضع اطر لتفاهمها قبل اي محاولات لتغيير الاوضاع القائمة.
ولكي لا يظن القارئ اننا بصدد تأجيل الحراكات وابقاء الاوضاع الخاطئةـ فإن المقصود هنا هو تشجيع التغيير والقضاء على الفساد واعادة الحقوق للمستضعفين واقامة العدل، عبر مراعاة ابعاد التنوع ووضع صياغة ملائمة بعيدا عن التعميم الغربي لمفهوم "الديمقراطية" والتي ترفع كشعار حق يراد به باطل.
فالديمقراطية المرفوعة على اسنة الرماح الثورية، هي وسيلة لغايات اكبر، كما انها وسيلة يمكن ان تتنوع اشكالها وليست الديمقراطية الليبرالية حصرا، والتي يريد الغرب تصوير انها الشكل الاوحد للديمقراطية.
هناك تجارب ابتكرت صورا للديمقراطية اعمق من التصويت الانتخابي والذي قد لا يفرز عدلا ولا حكما حقيقيا للشعب في ظل ظروف من الجهل وانعدام الوعي او في ظل ظروف من شراء الاصوات او التصويت العقابي، او التصويت القائم على انحيازات تتخطى المصلحة العامة لمصالح خاصة.
هناك اشكال من الديمقراطية القائمة على العدالة الاجتماعية وتوفير البيئة الملائمة للاختيار دون ضغوط او تشويش، وهذه الاشكال يمكن للحوار بين القوى الوطنية الاتفاق عليها.
ان تم الفرز جيدا بين المطالب الوطنية والمطالب السياسية، وبين مصالح المواطنين ومصالح السياسيين، وبين خصوصية الحالة الوطنية وحالات الاوطان الاخرى، فهنا تبدأ الحلول.
يبدأ الحل من وقفة تعبوية مضمونها اذابة الجليد والانفتاح على الحوار والنقاش ورفض الافكار المسبقة وطرح المشروع الوطني الجامع، ثم الفرز على اساسه لمعرفة من مع الوطن والشعب ومن مع مصلحته الذاتية.
انها دعوة للشعوب ولنشطاء الثورات من الشباب والشيوخ، مفادها، الحوار والطرح الواضح والكف عن الرهانات الغامضة القائمة على اوهام مثل التعجيز ولي الاذرع والفوضى او التعويل على الخارج، ومفادها ايضا الوعي بالمخاطر والوعي بالتنوع والتشبث بنبل الوسائل المتسقة مع نبل الغايات.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع