ربّما ليس جديدًا علينا كفقراء بدرجات متفاوتة أن نكون من أوّل المبادرين وربّما أصدقهم في تحويل مفهوم التكافل الاجتماعي إلى واقع مجرّب وناجع في إيجاد الحلول الطارئة بشكل خاص، والمؤقتة بشكل عام.. لقد بدأ هذا المفهوم بالتشكّل اجتماعيا منذ أن كانت بيوت الضيعة وبدون اتفاق مسبق تهدي من موائدها ما تيسّر "ضيافة" لبيت مستور أو لعائلة جرّحها العوز.. بدأ منذ كانت جدّاتنا تختار من ثياب الأبناء ما يمكن أن يناسب مقاس ابن الجيران فتغسله وتعطره ليليق كهدية.. بدأ منذ كان الخبز يفوح من بيوت فيها القليل من القمح فتتقاسمه أرغفة دافئة مع عائلة قريبة شحّ قمحها.. حسنًا، بدأ بأمثلة كثيرة.. ومنذ تلك الأيّام كان ثمّة من يرتضي على نفسه دناءة أن يحوّل الالتفاتة الإنسانية إلى محطة استعراض احسانيّ، وكان ثمّة فقراء يحتاجون الإحسان يأبون الدخول إلى المشهد، فيكفكفون دمع جوع أطفالهم بالحب، وبالزعتر الجاف وبما جادت به جارة كريمة أذابها الحياء فيما كانت عند الباب تطلب من صاحبة الدار الأبية أن تتذوّق صحنًا من طبختها كي لا تحرجها بعلمها بخلو البيت من رائحة الطهو.
تغيّرت الأيام، دخلت منصّات التواصل باب التكافل الاجتماعي، وما زالت القلوب كما كانت.. بعضها محسنٌ خجول يقدّم من كفاف يومه وعياله حصّة، وبعضها يعطي ما بقي من فتات موائده ويشترط وجود الشّهود عسى يسعفه العطاء بلقب المحسن، إن لم يكن أصلًا قد دخل التكافل من باب التجارة، فيعطي القليل ليكتسب بالمقابل، وما أكثرهم في أيام حاجتهم لصوت الفقراء، لأنين الفقراء، وربما "لثورات" وقودها الفقراء..
هؤلاء الفقراء لم يتغيروا أيضًا.. بعضهم ارتضى القبول بعطاء المتاجرين بهم وقدّم بالمقابل كرامته قربانًا يرصّع فيه "المعطي" اسمه، وبعضهم أبى.. وكثير ممّن آثروا الجوع على ذلّ النّفس هم ممّن لم يبخلوا على أرض وأعراض الكلّ بدماء أولادهم، باستقرار أيامهم..
ثم أتى زمن اشتدت فيه قسوة المترفين على الفقراء بفئتيهم، فاتخذوا من فقر الفئة الأولى سكينًا يغرسونه في خاصرة وجع الفئة الثانية.. وصار ذوو الإباء متهمين بتعبهم، بسلوكهم، بوعيهم، بأحزانهم.. والأقبح من كلّ قبح أنّ التهمة ترد على لسان من مثلهم، فقراء.
هي "ثورة" إذاً، وسُميت زورًا ثورة الفقراء، وأوّل من طعنتهم في صدقهم كانوا الفقراء..وأوّل من حاولت كسر إبائهم كانوا الفقراء.. هي ثورة وجهّت سهامها نحو صدر من ترفع الشعارات باسمهم المخضّب بالشقاء وبالعرق.. هي ثورة قالت سنجرّح أعمدة الفاسدين كي تسقط وما جرّحت إلا أوردة من سمعوا كلام الحق فقالوا هذا وجعنا، ثم بالوعي أدركوا أنّه يراد به باطل فلمّوا ضفاف الجرح وتصبّروا بالوعي وببعد النّظر..
هي ثورة تعطف على الفقير بكسرة خبز، وربما بوليمة عامرة، كي تكسو عريّها بقماش من جلد الفقراء.. كلّ الفقراء.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع