يبدو ان "نبوءات " الثعلب الاميركي هنري كسنجر تجول مفاعيلها في ارجاء البيت الأبيض، حيث يبدو ترامب عرابا لها، ويصادق هذا الثعلب مكره وخبثه اللذين لا يتأتيان عفوا كرد فعل على احداث تقع ضمن سياقات ظرفية، بقدر ما هي خوف من مسار بنيوي بات يفرض نفسه على ارض الواقع العالمي.
"سيطروا على النفط فستسيطرون على الامم، سيطروا على الغذاء تسيطرون على الناس". انها ليست امنية ولا مجرد نظرية تضم الى مؤلفات منظري السيطرة على العالم وتاريخ الأمم، انها سياسة الولايات المتحدة الاميركية بعد نهاية الحرب الباردة متوجة بانهيار قطب الاتحاد السوفياتي. هذه السياسة، والحق فيها يقال، تتسم بالاستمرارية ولا تتبدل اهدافها بحسب قاطني البيت الابيض، جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين، وان تعدلت خطط مسيرها او اضيف اليها اخرى بديلة وذلك وفقا للاولويات المستجدة.
الاولوية عند كسنجر هي إحداث حرب عالمية على مراحل، تضم محور روسيا والصين وايران مقابل اميركا واسرائيل والى حد ما الاتحاد الاوروبي، والتي بنظره سيخرج منها منتصر وحيد وهو اميركا لا محال، حيث تتفوق على الاخرى عسكريا، اقتصاديا، تكنولوجيا وثقافيا. وهو كان قد اعتبر ان اميركا سمحت لروسيا الاتحادية بالتعافي من الارث السوفياتي، وافسحت لها المجال للنهوض مجددا، يترافق هذا النهوض مع تعاظم اقتصادي للقوة الصينية واتساع مشاريعها الانفتاحية سيما من خلال اعادة احيائها لطريق الحرير القديم. لذلك فلا بد عند نقطة تصاعدية معينة على اميركا ان تقوض هاتين القوتين وتثبت للعالم ان القوة العالمية لا زالت أحادية ولن تعود ثنائية القطبين، وتجدر الاشارة الى ان كيسنجر كان قد اكد ان هذه الحرب ستدور رحاها حتما في منطقة الشرق الاوسط.
اذاً، يظهر ترامب وكأنه اللاعب الوحيد الذي يريد ان يستحوذ على الخطة بدءا من الامساك بخيوط رسمها، مرورا بالتنفيذ وانتهاء بتقييمها الرابح وقطف ثمارها شعبيا وعالميا واقتصاديا واكثر صهيونيا.
اغتال الاميركيون جنديا من جنود ولاية الفقيه (كما كان يحب التعريف بنفسه)، اغتالوا القائد الأممي كما يراه محور المقاومة ونراه، لا خائفين من عقبى او تنديد او استنكار، فثلاثتها ان لم تصغها اميركا بنفسها، فهي لا تتعدى اكثر من تصريحات لم تلتفت لها يوما.
اغتيال القائد لم يأت رد فعل على استهدافات ضد جنود او مواقع او مصالح اميركية بقدر ما هو تعبير اميركي عن حقيقة مخاوفه وتيقنه من دخول العالم طورا في تشكل نظام عالمي جديد يقوض من هيمنة الاميركي، ولا ريب انه في عملية اغتياله لقائد قوة القدس في الحرس الثوري الايراني الحاج قاسم سليماني، راهن على نزاهة عدوه، فهو يتيقن من ان الايراني لن يجر المنطقة الى حرب مفتوحة، تستنزف محور المقاومة وشعوب المنطقة المستنزفين من سياسات الولايات المتحدة الاميركية الاقتصادية التي ارادها كسنجر: "سيطرة على الغذاء في سبيل السيطرة على الناس".
وهنا يبدو الضياع الترامبي، فجزء من الخطة كان ليكون قاب قوسين او ادنى من التحقق، ومن جهة اخرى رهانه على عدم انجرار الايراني لخوض الحرب، امران يتناقضان. ولعل استتباع عملية الاغتيال بعملية ثانية صباح اليوم استهدفت رتلا لطبابة الحشد الشعبي في بغداد، انما يدل على ارتباك ترامب ورغبته في تخفيف حدة اغتيال القائد بسلسلة اغتيالات اخرى تقدم عليها القوات الاميركية في الفترة القادمة.
لكن ربما يفغل الاميركي ان القصاص والرد، يحوزان على سبل كثيرة غير الحرب،(ربما يكون احدها اقرار قانون اجلاء القوات الاميركية عن الاراضي العراقية)، وخاصة ان الاغتيال شد عصب المحور والامة، وهذا ما سيشتت الاميركي ويمنعه عن تأطير نطاق واحد للرد كما يريد هو؛ فاليوم الكل معني بالقصاص لدم الشهيد.
اما نحن، ففي كل مرة ومع كل شهادة، تبعد فلسطين عن اعيننا وتتسع المسافة بين صلواتنا والمسجد الاقصى، يثقل الامل كثقل رحيل قادتنا، لكن يبقى عزاؤنا ان المرء كلما ابتعد عما يحب يطلبه اكثر، ويزداد شوقه ورغبته تتضاعف. لم يعد غماد مغنية ولا مصطفى بدر الدين، لم يعد سمير القنطار الا لفلسطين، لن يعود سليماني ولا المهندس، ولن يأتي مثلهم لكن سيأتي غيرهم حتما..
مع كل رحيل ندنو منك فلسطين اميالا واميالا من الجبروت والحب.

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع