في الغرب يتكفل الإعلام بصناعة رأي عام موحد حيال قضية ما من خلال الترويج القائم في أغلب الأحيان على التلفيق والتبسيط واختلاق الروايات والتحليلات الساذجة لتتماشى مع ثقافة الجماهير الغفيرة أو رجل الشارع. لكن دائمًا وباستمرار فإن الحقيقة موجودة للباحث المثقف، وحتى للرجل متوسط الثقافة القارئ للصحف المرموقة والكتب والدوريات. أما عندنا في الشرق العربي فإنّ الرأي العام السياسي يخلقه رجل الشارع ضعيف الثقافة السياسية والعامة ويردده كل طبقات المجتمع من أقلهم ثقافة إلى أستاذ الجامعة المتخصص في علوم السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع.
ولعل أصدق الدلائل على هذا الأمر ما يقال عن صواريخ "صدام حسين" الـ39 التي ضربها على "إسرائيل" متحديًا أي زعيم أو بلد عربي آخر أن يضرب الصاروخ رقم 40.. ويستخدم هذا المثال للتدليل على وطنيته في الدفاع عن فلسطين ورغبته في تحريرها وعدائه لإسرائيل وجرأة الرجل بمواجهتها وتحديه زعماء العرب أن يكونوا بجرأته وشجاعته.. والحقيقة أنّه ضرب 42 صاروخاً تم اعتراض معظمها وكانت آثارها التدميرية قليلة. والحقيقة الأخرى أن الرجل الذي أساء التقدير لم يكن هدفه من اطلاق الصواريخ صوب إسرائيل إلا أن يستدعي ردًا إسرائيليًا حتى يبدو وكأن المعركة عربية-إسرائيلية فيحرج بذلك الدول العربية والإسلامية المشاركة بالتحالف ضده والتي ستبدو وكأنها تحارب في صف "اسرائيل" ودفاعًا عنها مما يضطرّها إلى ترك التحالف والانسحاب منه. كما أراد أيضًا أنّ يضغط على أمريكا التي تشن الحرب ضده من خلال ضرب أهم أو أعز حلفائها في المنطقة لعلها تضطرّ لوقف الحرب أو التفاوض والمساومة.
فالرجل ضرب الصواريخ لأغراض سياسية لها علاقة مباشرة ووحيدة بالأزمة العراقية الناتجة عن مسألة احتلال الكويت، ولم يكن للصواريخ أي بُعد يختص بالصراع العربي-الإسرائيلي ومعركة تحرير فلسطين.. والرجل حينها كان يدرك أنه في مأمن من رد إسرائيلي مباشر، لأن أمريكا طلبت من "إسرائيل" عدم الرد حتى لا يؤثر ذلك على حجم التحالف وتكوينه، وإن قامت "إسرائيل" بالرد فبذلك يحقق صدام هدفه السياسي من زعزعة التحالف واكتساب رأي عام شعبي عربي واسع تعاطفًا مع الدولة العربية التي تحارب "إسرائيل" ويحاربها العالم لأنها تحارب إسرائيل. وفي كل الأحوال فالرجل لم يكن ذا حظ إلا في سوء تقديره واضطراب تفكيره وقصر نظره في كل مسألة من مسائل السياسة الدولية بداية من هجومه على إيران ثم احتلال الكويت وانتهاء باحتلال العراق وتدميره، ناهيك عن سياسته الداخلية التي لم تجلب له ولحزبه إلا العداء من كل أطياف المجتمع العراقي باستثناء التكريتيين والمنتفعين.
خلاصة الأمر: إن تكوين رأينا السياسي الشعبوي في أغلبه مغلوط لأنه صادر عن أقل الفئات المجتمعية ثقافة وإدراكا ووعيًا، لكن ذلك الرأي الشعبوي يجد طريقه إلى مقالات وأقلام واحاديث نخبة المجتمع والمتحدثين باسمه.. وهذا ما بدا جليًا في مسألة الاعتداء على إيران والرد الإيراني مؤخرًا.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع