تبدأ المشاهد من نهايتها، حين يتعلّق الأمر بالاعتداء، أيّ اعتداء، ومهما كان المعتدي.. تبدأ من رأس شاب أعزل يُسحل بين عشرات الخوذات، ومن صبية تُعنّف بقوّة "الرينجر"، ومن رجل يُضرب بذراع عقدة السلطة وبسلاح "الآمر" بالتراتبية التصاعدية وصولًا إلى وزيرة تحاول حماية المؤسسة المصرفية التي تشغل أو شغلت فيها منصب عضو مجلس تنفيذي، ومنها إلى رئيس حكومة مستقيل تعرّض فيما سبق لتعنيف مشابه في إحدى حجرات الريتز..
هنا، ومهما بلغت الخصومة السياسية، أو الاختلاف الجذري في النظر إلى طبيعة الحراك وخلفيته المتعددة حدّ التناقض، تقف أمام المشهد جريحًا، مصابًا بطعنات مؤذية وبغضبٍ هائل.. سواء كان المعتدى عليهم ممّن تعرفهم أو لا، كلّ منظومتك الأخلاقية والإنسانية سترفض أن ترى أشخاصًا عُزّل يُسحلون ويضربون فقط لأنّ مدلّلًا يرفض أن يقبل بواقع أنّه يمكن للبلد الذي يظنّه جزءًا من تركة أبيه أن يكون "ماشي" بدونه، فيلجأ إلى سلوك مافياوي بتقنية من آمر إلى آمر وصولًا إلى مأمور يفرغ شحنات من طاقاته العنفية ويهوي بحقد غريب على وجه أو رأس أو جسد من لا يعرفهم أصلًا، ويهتفون ضدّ منظومة هو متضرّر منها بدوره، وإن بنسبة أقلّ من غيره..
بين الموقوفين والجرحى والنّاجين من بطش قوى الأمن بإمرة عماد عثمان (على اعتبار أن وزيرة الداخلية ريا الحسن صرّحت أنها لم تصدر أي أوامر باستخدام العنف)، يمكن أن تلمح وجوهًا جعلها الحراك مألوفة لعينيك، وأسماء تربطك فيها صلات تتراوح بين سلام ونقاش عابر وصولًا لرابط إنسانيّ يتيح لك التعرّف على الأرواح التي خلف هذه الوجوه، ويتيح لك إدراك أنّهم في المكان الذي يرون فيه طريقًا لتحويل صرخة الوجع إلى "ثورة".. تختلف معهم، ولكنّك تحترم خياراتهم بخلفيتها النظيفة أو على الأقل غير الملوّثة بالروابط الخفية..
بين عيون أهاليهم وأصدقائهم ستتعثر بقلبك فيما لو كان ابنك او أخوك أو صديقك في عداد ضحايا سلوك "استثنائي" بحسب توصيف وزيرة أنكرت علاقتها بالأوامر ثمّ برّرتها بحجة أن رجال "قوى الأمن متعبون".. بدا هذا المبرر لكمة إضافية على وجه كلّ من طاوله "تعب" رجال قوى الأمن، وصفعة على قلوب أهاليهم جميعًا.. بدا الاستهتار بأمن النّاس وتصوير إصاباتهم وكأنها حقّ مكتسب مارسه أفراد قوى الأمن تعبيرًا عن غضبهم.. هنا يعود السؤال بإلحاحٍ موجع: لماذا لم يتعب هؤلاء من حواجز قطع الطرق التي قامت وتقوم بها عصابات المستقبل والقوات والاشتراكي، ولماذا لم يدخلوا حيّز السلوك الاستثنائي حين كانوا يقصّرون بواجباتهم الوظيفية فيتفرجّون على إذلال الناس في الطرقات على يد "ثوّار" تحرّكهم "السلطة" كيفما شاءت؟ لماذا لم يخرج منهم واحد على الأقل تهتز نخوته لرؤية امرأة جاءها المخاض عند معبر وضعه قطاع الطرق في شارع حيوي يربط المناطق ببعضها بعضاً، ولم يشعر بإهانة لبزّته العسكرية حين مراهق قليل التربية طُلب إليه أن يشعل الإطارات أو يسكب المازوت في طريق العابرين..
ربّما هي ليست المرّة الأولى التي يتصرّف فيها جهاز أمني وظيفته حماية الناس وفق أوامر يتنصّل منها أصحابها فيما بعد، لكنّها مناسبة ليُحاسب فيها وعليها أعلى هرم نظام الأوامر المستقيل هذه المرة دلالًا وبإرادته، وليس كاستقالته السّابقة مرغمًا معنّفًا مهانًا في بلاط عزيزه ووليّ أمره.. وهي مناسبة ليُحاسَب فيها صبيانه (ذكورًا وإناثًا) على التصرّف "الانتقامي" حيال أفراد مارسوا حقّهم القانوني بالتظاهر، سواء اختلفنا معهم في المسار أو اتفقنا.
وبعد، إلى جميع الجرحى والنّاجين من اعتداءات "ليلتيْ عودة سعد"، تحيّة حبّ لا يُفسدها اختلاف المسارات في مواجهة السلطة الأميركية في لبنان والمنطقة..
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع