بقرار قضائي مشؤوم وإن كان لا يشكّل سابقة في ملف محاكمة العملاء، تم تهريب العميل المثبتة إدانته على صهوة الضغط الأميركي والخضوع المحلّي.. وبقرار قضائي يغلّفه قانون بثغرات كثيرة، تحسّس طيلة اللّيل أسرى وأسيرات معتقل الخيام جراحهم، وما وجد النوم إلى ذاكرتهم الملتهبة بمشاهد التعذيب سبيلًا..
الزمان، حالة طوارىء والمكان بلاد مهدّدة بنكبة "ڤيروسية" تُضاف إلى سائر نكباتها. وربّما بعد حين يمكننا أن نؤكد أن الزّمان حالة حرب ومواجهة مع "ڤيروس" أميركي الصنع، والمكان قلوب تواجه بكلّ عزم الهجوم البيولوجي الأميركي وتعدّ نفسها لنصر جديد.. أما الحكاية، فصفعة على وجه العدالة ووجه المعذّبين في معتقل الخيام ووصمة عار لا تُمحى من على جبين كلّ من تخاذل وغطّى وبرّر وخضع وساهم بارتكاب شنيع من رتبة "تهريب عميل"..
بالأمس، نسي شرفاء لبنان برهة أزمة "كورونا" تحت وقع جرثومة الخضوع للضغط الأميركي.. لانقضاء المدّة وأعذار تافهة وركيكة أخرى، سلّم قاضٍ شرفه المهني والأخلاقي والإنساني وتنازل، باسم الشعب اللبناني، عن حق محاكمة القاتل.. ببساطة تعادل جرّة القلم على ورقة قد تكون مكتوبة بإملاء من هاتف "عوكري"، تنكّر القضاء العسكري للدعاوى التي رفعها الأسرى المحررون والمعذبون في معتقل الخيام، وأطلق سراح جلادهم "على عينك يا تاجر".
نظرات الذهول في عيونهم إذ تجمّعوا قرب المحكمة العسكرية، تمزج العتب الكبير بالغضب المؤلم وبخيبة ووجع يعادل كلّ ساعات التعذيب التي عاشوها على يد عامر الفاخوري..
بالمقابل، مزّقت عيوننا وقاحة الفرحين بقرار القضاء اللبناني. بدا المشهدُ جارحًا حدّ استعادة كلّ لحظات الخيبة التي عشناها باسم الأمر الواقع وسياسة "الآخر" الذي أمعن في إيذائنا حين عجز الصهيوني عن ذلك.. استعدنا الأحكام الهزيلة التي رافقت ملف محاكمة العملاء بعد التحرير في العام ٢٠٠٠، وصيحات الحزن والدمع في عيون النّاس الذين عاشوا وصمدوا في "الشريط المحتل" تحت بطش وقسوة هؤلاء العملاء.. استعدنا لحظات تحرير معتقل الخيام، رائحة الزنازين، أدوات التعذيب، وصيحات الحرية التي رافقت ذلك اليوم العزيز.
غضبٌ بألوان كثيرة غصّت به كلمات الناس على منصات التواصل الافتراضي. وبعيدًا عن حجم الافتراء في فرضية "موافقة" حزب الله على القرار، والتي بدّدها البيان الذي صدر عنه قبيل منتصف اللّيل، والذي أدان فيه القرار ومن أصدره، كان الحزن هو السمة المشتركة في جميع ردات الفعل على إطلاق سراح جزار الخيام، وهذا لا يشمل طبعًا المتأمركين الذين أبدوا سرورهم بقرار كهذا، تمامًا كما يفعلون في كلّ مرة يصاب فيها أشرف الناس بوجع أو خيبة. ولا يشمل أيضًا المزايدين الذين ينتظرون فرصة يصوّبون فيها على كل ما يمت إلى فلك المقاومة بصلة، بظاهر تضامني وباطن شامت خبيث. فهاتان المجموعتان وإن وجدتا بالأمس "فرصة" تفرغان من خلالها كيدهما وخضوعهما للأميركي، فهما تعلمان جيّدًا أن ما تفرغانه ليس سوى فقاعات فارغة ستزول بزوال كلمة "عاجل" عن الخبر اللئيم.
بشكل أو بآخر، لم يكن من المتوقع أن يتجرّأ القضاء على إصدار حكم عادل بالإعدام على قاتل ومعذّب ومرتكب للخيانة العظمى، ولكن لم يكن من المتوقع أيضًا أن يبلغ الخضوع للضغط الأميركي هذا الدرك من الوقاحة وقلة الاعتبار على الأقل لعذابات من لا زالوا يعانون من مفاعيل التعذيب في المعتقل.. وهنا كانت جملة "لانقضاء الزمن" وحدها كفيلة بفتح ألف جرح في أرواح من عرفوا الفاخوري جزّارًا، ووحدها كانت تنطق بحقيقة أن لا زمن ينقضي قبل شفاء هذه الجروح.. 
صدر القرار الظالم بحقّنا جميعًا، وتمييزه لا يعني على أرض الواقع شيئًا ما دام المجرم حرًا طليقًا، وما دامت سلطة الأميركي تُخضع قاضٍ وتبتّ بحكم.. الفاخوري الآن لم يعد موقوفًا، إنّما القضاة الذين سهّلوا له درب "الحرية" دخلوا زنزانة من عارٍ سيلحق بهم مهما طال الزمن، ومطالبتهم بالإستقالة ليست سوى ردّ على فشلهم الذريع والمتسّخ بالإيعاز الأمريكي، لكنّها، إن تجاوبوا ونفّذوها، لن تزيل أبدًا عن جبينهم عار خيانة المعذّبين، والخضوع بأبشع صوره لإملاءات العدو.. هيبة القضاء في يوم البارحة سقطت إلى أسفل درجات الأخلاق، وإن تمسّكت بحبال الحجة القانونية، فهي تبقى حبالاً واهية لا تتأخر عن رمي المتمسكين بها في قعر اسمه الخيانة..

المصدر: خاص الرافد

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع