كانت البلاد على أعصابها مع بلوغ وباء «كورونا» شفا الانتشار، حين دهمت المشهد أخبار العميل عامِر الفاخوي، بعدما تقرر «التفاهُم» على إسقاط جرائمه بمرور الزمن بين الولايات المتحدة الأميركية وجهاتٍ في بيروت. المُشكلة في إطلاق الفاخوري وتهريبه في ما بعد لا يتلخّص «بحجمه» كعميل فحسب، بل يشمل أيضاً السماح للأميركيين بممارسة الضغط وتحقيق ما يُريدونه. قالها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، طارِحاً أمثلة عن احتمال المُطالبة بترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المُحتلة، وفقاً للمشيئة الأميركية، تحت طائلة العقوبات.

قد يجد البعض الكلام عن الاهتمام الأميركي بملف ترسيم الحدود في ذروة انتشار الوباء في العالم وانعزال الدول على قاعدة «نفسي أولاً» ضرباً من ضروب المبالغة. لكن ماذا لو انتهى كل ذلك فجأة، وعاد الأميركيون بسوطٍ أشدّ؟ هل سنكون أمام مؤامرة أخرى لأن هناك من سيعود ويقتنِع تحت الضغط بأن قوة لبنان في ضعفِه؟

منذُ أيلول الماضي، جرى تجميد ملف الحدود البحرية، وتحديداً بعد زيارة قام بها المبعوث الأميركي مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر إلى بيروت، لاستكمال ما بدأه سلفه ديفيد ساترفيلد الذي تولى التفاوض غير المباشر بين لبنان والعدو الإسرائيلي بشأن الترسيم. وساطة باشرتها واشنطن عام 2012، وتولّاها الدبلوماسي فريدريك هوف، الذي اقترح تقاسُم المنطقة المتنازع عليها عبر حصول لبنان على 500 كيلومتر مربع، والعدو على 360 كيلومتراً مربعاً، وفقاً لخط رسمه صار يُعرف لاحقاً بـ«خط هوف» الذي رفضه لبنان. استكمل المفاوضات الموفد الأميركي آموس هوكشتين مُتقدماً بمسودة اقتراح تعطي لبنان 600 كيلومتر مربع من المنطقة «المتنازع عليها»، من دون أن يُكتب لاقتراحه النجاح. نام الملف ٤ سنوات، بدأ الكيان الصهيوني خلالها عملية الحفر في حقل «كاريش» على الحدود اللبنانية، إلى أن ظهرت فجأة بداية العام ٢٠١٩، وساطة أميركية جديدة عبر ساترفيلد، بدفع من «إسرائيل» «المزنوقة» على استقرار يحفّز الشركات الكبرى على الاستثمار، من دون عواقب أمنية.

لمست المقاومة في لبنان الاستعجال الأميركي ــــ الإسرائيلي لحلّ الملف، وهو ما عُدّ فرصة للبنان كي يفرض الشروط التي يُريدها لاسترجاع كل المساحة البحرية التي سعى العدو إلى وضع يده عليها. تولى رئيس مجلس النواب نبيه بري عملية التفاوض، انطلاقاً من ورقة اتفق عليها لبنان الرسمي تضمّنت ٦ نقاط، أهمها تلازُم ترسيم الحدود البرية والحدود البحرية وعدم الفصل بينهما، وخصوصاً أن نقطة انطلاق الحدود البرية في حد ذاتها هي نقطةُ انطلاقٍ للحدود البحرية.

لكن هذه النقطة تحديداً لم تكُن محط إجماع بين القوى الداخلية. ففي أكثر من مرة، عبّر رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل عن ميلهما الى القبول بالفصل، وكانا يُبديان مرونة تجاه هذا الأمر انطلاقاً من أن «مصلحة لبنان تقتضي البدء بالتنقيب عن الغاز في البحر فوراً». أما رئيس الحكومة السابق سعد الحريري فلم يكُن ميالاً وحسب، بل كان سبّاقاً للموقف الأميركي. ففي الوقت الذي كان فيه الموفدون الأميركيون يلجأون للتفاوض على الفصل بين البرّ والبحر، كانَ الحريري يضغط لسحب الملف من عهدة الرئيس برّي ويعد «أصحابه» في واشنطن بالحل. لم يتوقف الحريري عن «النق»، مُطالباً بتسلّم الملف، لأنه وعد بتقديمه هدية الى صهر الرئيس الأميركي ومستشاره جاريد كوشنر. وكان ملف التفاوض والترسيم من بين الملفات التي ناقشها في لقاء سرّي مع كوشنر ومستشار الأمن القومي جون بولتون («الأخبار»، الأربعاء 21 آب 2019)، وبعدها بدأ الترويج لفكرة طرح الملف على التصويت في مجلس الوزراء، كما قال أحد مستشاري الحريري، مهدّداً بـ«يجب أن تختاروا ما بين المُساعدات التي ستأتي إلى البلد أو الانكماش الاقتصادي».

استقالة الحريري ومجيء حكومة الرئيس حسان دياب وضعا ملف الترسيم الحدودي جانباً، حتى وقعت واقعة الفاخوري، الأمر الذي أعاد التنبيه إلى خطورة ما يُمكِن أن يفعله الأميركيون من أجل الحصول على مرادهم بالشكل الذي يحلو لهم. وبعدما خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عز أزمة كورونا في بلاده ليشكر الحكومة اللبنانية على تعاونها لتحرير الفاخوري، من دون أي تعليق من جهتها على كلامه، يصحّ السؤال عما إذا كانت المُهمّة الموكلة إليها في مرحلة لاحقة هي عقد صفقة بحرية بين لبنان والعدو، وفق ما تراه واشنطن مُناسباً.

مصادر لبنانية مطّلعة تؤكد لـ«الأخبار» أن الملف «مُجمّد منذ أشهر، والرسائل المتبادلة بين الوسيط الأميركي والجانب اللبناني مقطوعة، ولا مؤشرات على أي زيارة سيقوم بها مسؤولون أميركيون يتولون متابعة الملف». لكن المصادر نفسها تشير إلى أنه «ليس بعيداً بعد فترة أن نسمع بقرار أميركي لاستئناف التفاوض بشرط أن يجري هذا التفاوض مع الحكومة الحالية، وتستخدم جهات لبنانية الأسلوب نفسه للسير بالتسوية، أي التأكيد على عدم قدرة لبنان على الوقوف في وجه الضغوط والتهديدات الأميركية»، كما «ليس بعيداً أن يوضع خيار التصويت في الحكومة على الطاولة، وحينها سنكون أمام أزمة كبيرة».

مصادر بارزة في فريق ٨ آذار أكدت أن «ملف الترسيم الحدودي أكبر بكثير من قضية الفاخوري، ولا يُمكن تهريبه في جنح الظلام بجلسة سرية». وقالت المصادر إن «الملف كان في عهدة بري وسيظلّ كذلك، وإن جرى استئناف التفاوض فسيكون وفق الشروط التي وضعها لبنان ولا مساومة في ذلك». واعتبرت المصادر نفسها أن «التشاطر الذي مارسته جهات سياسية في ملف الفاخوري لن ينفع ولن يمُر مهما كانت دوافعها الحقيقية أو الافتراضية»، مشددة على أن «طرح الملف على التصويت سيؤدي إلى انقسام سياسي كبير يُعيد خلط كل الأوراق في البلد».

المصدر: ميسم رزق - الاخبار