انتقلت اسرائيل الى مرحلة مصارحة الرأي العام الداخلي، في توصيف مستوى خطورة صواريخ حزب الله الدقيقة، على الامن القومي الاسرائيلي في مختلف أبعاده الهجومية والدفاعية والردعية. وتنوعت أهداف هذا الإقرار باتجاهات متعددة واحياناً متعارضة. فهي تحتاج إليها لتبرير انكفائها عن المبادرة الهجومية الواسعة حتى الآن، وايضاً بهدف وضع الجمهور الاسرائيلي في صورة حجم الخسائر التي يمكن أن يتعرض لها عمقها الاستراتيجي في أي مواجهة مفترضة واسعة، بغض النظر عن درجة احتمال تحقق هذا السيناريو في المدى المنظور.

 

طوال تاريخها، حرصت إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، على ألا يمتلك العرب أي قدرات نوعية تهدد تفوقها الجوي، وعمقها الاستراتيجي. ولهذه الغاية عملت واشنطن على أن يحتفظ وكيلها الاقليمي (اسرائيل) بتفوق جوي على مستوى منطقة الشرق الاوسط، نجحت في توظيفه كرأس حربة هجومية في كل الحروب والعمليات العسكرية التي شنتها اسرائيل طوال العقود السابقة.
لكن المفاجأة الاستراتيجية والعملانية التي غيّرت المعادلات الاقليمية، تمثلت - الى جانب الانتصارات الاقليمية التي حققها محور المقاومة - بامتلاك حزب الله صواريخ دقيقة نقطوية. هذا المفهوم لم يتم استخلاصه من شرح لخبير عسكري في محور المقاومة، بل أتى بقلم أحد أبرز خبراء اسرائيل في مجال الصواريخ، البروفيسور عوزي روبين، الذي سبق أن تولى رئاسة منظومة حيتس الاعتراضية التابعة لوزارة الامن الاسرائيلية.
بمنهجية استدلالية، تستند الى ما يختزنه من تجارب وخبرات، عرض روبين العديد من المحطات الميدانية، في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، التي تُظهر دور سلاح الجو في حسم الحروب والتمهيد للانتصارات التي حققها جيش العدو. وخلص في أعقابها الى شرح مفهوم التفوق الجوي ودوره في الحروب، الذي يهدف (على المستوى العسكري) الى «منع حرية العمل الجوي للعدو فوق اراضي الدولة، والسماح لقواتها الجوية بحرية العمل فوق اراضي العدو»، فيما الهدف الاستراتيجي لهذا التفوق يتمثل في «التمكين من سحق القوات البرية والبحرية للعدو، وشل البنى التحتية العسكرية والمدنية في عمق أراضيه»، وصولاً الى «هزيمته بالكامل واحتلال أرضه».
وسخر روبين، الذي تحفر مقولاته في وجدان الرأي العام الاسرائيلي، وتمثّل أساساً يستند اليه باقي الخبراء في هذا المجال، من مقولة أن «الصواريخ لا تؤدي الى الانتصار في الحروب»، واصفاً إياها بأنها «لم تكن دقيقة أبداً، وأصبحت غير ذي صلة، وخرافة ليس أكثر». واستدل على هذا المفهوم بالقول إن «الصواريخ الحديثة لديها اليوم قوة سحق لا تقل عن قوة الطائرات، وتفعيلها أسهل لأنها لا تحتاج إلى قواعد ضخمة ومُكلفة وعرضة للإصابة». وأسهب في توضيح المعاني العسكرية والعملانية لامتلاك هذا النوع من الصواريخ بالقول إن «امتلاك صواريخ حديثة ودقيقة ونقطوية، يمكنه شل بنى تحتية عسكرية ومدنية لدول كاملة والتسبب في هزيمتها». ورأى روبين، الذي ينطوي تحذيره على خصوصية استثنائية نتيجة المكانة التي يحتلها بين خبراء الكيان، أنه «في أيامنا، الصواريخ والقذائف الصاروخية تؤدي الى الانتصار في الحروب». ونتيجة ذلك دعا اسرائيل الى «فعل كل ما هو مطلوب كي لا تهزمها صواريخ العدو وكي تهزم صواريخها العدو».

 

كيف يُترجم هذا الشرح عملياً بالنسبة إلى قدرات حزب الله الصاروخية الدقيقة؟
رأى روبين في دراسة موسعة نشرها معهد بيغن - السادات، أن «امتلاك حزب الله لهذه القدرات سيضعه في مكان جديد». كيف؟ «سيكون بيد حزب الله عملياً سلاح جو خاص به مع تفوّق جوّي هجومي – لكن من دون طائرات». موضحاً ذلك بتحديد ملموس، أن «الصواريخ الدقيقة لحزب الله ستُمكِّنه من إصابة نقطوية لمنشآتٍ حيوية في أنحاء إسرائيل وتفتيت قدراتها». وبخصوص فعالية القدرات الإحباطية، الهجوم الاستباقي، التي يفترض أن تمتلكها اسرائيل، لفت روبين الى أن «إحدى مزايا هذا النوع من القدرات الصاروخية، بصمته المنخفضة». بمعنى أنه يمكن لحزب الله إطلاقها من «شاحنة متوسطة ومتحركة ومتملصة في الميدان. وعليه، يصعب إيجادها وتدميرها». وهكذا يكون حزب الله قد سلب العدو الجدوى لأي هجوم استباقي – وقائي، وحافظ على القدرات التي تسمح له بجبي أثمان هائلة من عمقه الاستراتيجي.
وبالمقارنة مع سلاح الجو الاسرائيلي، فإن «أحد أبرز عيوب القوة الجوية هو الحاجة إلى قواعد كبيرة الحجم وفيها مدارج إقلاع وهبوط بطول كيلومترات، وهي تعجّ بمخازن ومراكز قيادة ومساكن للطيارين والكثير من المنشآت الحيوية الأخرى». وتتميز «القاعدة الجوية بكونها هدفاً ضخماً ثابتاً من الصعب أن تخطئ (الصواريخ الدقيقة) إصابته». ويعني ذلك أنه في الوقت الذي لا تملك فيه إسرائيل خيارات عملانية مجدية، يملك حزب الله خيارات ردّية أكثر جدوى.
ولفت روبين في هذا السياق الى أهم محطة استهداف صاروخي باليستي دقيق في العقود الاخيرة، (استهداف الحرس الثوري الايراني لقاعدة عين الاسد الاميركية في العراق) التي تعرضت لمحاولة تطويق اعلامي بهدف طمس ابعادها الاستراتيجية والعملانية (تأثر بها بعض مؤيدي محور المقاومة). لكنها، بنظر روبين، عيِّنة كافية لتظهير مزايا الصواريخ الدقيقة وفي مواجهة من؟ في مواجهة دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة. فكشف عن أن أحد الصواريخ الايرانية الدقيقة «أصاب قناة أليافٍ بصرية كانت تربط بين مركز السيطرة وطائرات مسيّرة بأجهزة الاتصال، ونتيجة ذلك فقد المشغّلون الأميركيون السيطرة على سرب طائرات مسيرة كان يحلّق في الجو خلال الهجوم [الصاروخي الإيراني]. وفقط بعد جهود استمرت لساعات تمت إعادة الاتصال وهبطت الطائرات المسيّرة بسلام». وعلى وقع هذه الصلية الصاروخية الدقيقة الاصابة، وصف روبين حالة القوة الجوية الاميركية التي كانت متموضعة في القاعدة بأنها «كانت عاجزة أمام صلية الصواريخ» (الايرانية). ثم أوجز ما تقدم بالقول، إن «إيران حققت في هذه الحالة تفوّقاً جوياً من خلال صواريخ دقيقة ومن دون استخدام طائرات».
بعد ذلك، عمد روبين الى إسقاط هذه التجربة – المحطة، لجهة دقتها في الاصابة، بشكل موسع على أي مواجهة عسكرية مفترضة وواسعة بين حزب الله وجيش العدو، وخلص من خلال ذلك الى استشراف انعكاساتها على خياراته العملانية، «يمكن الافتراض أنه في حربٍ مستقبلية مع حزب الله، فإنه قادر على القيام بعملية «موكد» (الاسم العسكري للضربة الجوية التي نفذتها اسرائيل ضد سلاح الجو المصري والاردني والسوري على أرض المطارات وبدأت بها حرب العام 1967). لافتاً الى أن الهدف الاستراتيجي لهذه العملية (موكد)، كان «تحييد قدرات العدو التي تستهدف ضرب قوات الجيش وأراضي دولة اسرائيل من الجو، وفي الوقت نفسه تمكين القوات البرية (الاسرائيلية) من هزيمة الجيوش العربية». وبالمقارنة مع الخيارات التي تتيحها القدرات الصاروخية النقطوية لحزب الله، حذَّر روبين من أنه يمكن له القيام بضربة مشابهة «بواسطة صليات صواريخ دقيقة يشل من خلالها القواعد الجوية لإسرائيل فور بدء المعركة». بعبارة أكثر مباشرة، من الواضح أن روبين يُحذر من أن حزب الله قد يملك القدرة على شن عملية «موكد» مشابهة لتلك التي شنتها اسرائيل في بداية حرب العام 1967، في مواجهة أي حرب قد تشنها الأخيرة.
ما قدمه عوزي روبين، مثّل إقراراً مباشراً بالمفاجأة الاستراتيجية والعملانية التي صدمت واشنطن وتل أبيب، لكونها رسمت مساراً جديداً لحركة التاريخ مغايراً – في الكثير من معالمه - لما كانتا تخططان له عبر إرساء معادلات جديدة في المنطقة. وتحقق ذلك، نتيجة نجاح حزب الله، وبدعم الجمهورية الاسلامية في ايران، في الالتفاف على الخطوط الحمر الاميركية والاسرائيلية، وامتلاك صواريخ متطورة ودقيقة ونقطوية، لا تختلف فعاليتها – بحسب ما شرحه روبين - عن امتلاك سلاح جو متطور قادر على دك تدميري للجبهة الداخلية الاستراتيجية التي بقيت محصنة – بالإجمال – إزاء هذا المستوى من الخطورة. فامتلاك هذا المستوى من القدرات كان خارج مخيلة وأوهام قادة العدو وخبرائه طوال مراحل الصراع العربي الاسرائيلي، لكن ما زاد من خطورتها أنها تستند الى شجاعة في اتخاذ القرار لدى قيادة حزب الله كانت سر تغيير المعادلات وإحباط الكثير من المغامرات التي كان يُعدّ لها.

المصدر: علي حيدر - الاخبار