الفكر عملية ديناميكية يمكن لها ان تتطور وتتكيف وتتجدد، بخلاف العقيدة التي تكون راسخة وقائمة على ثوابت. ولعلنا نلاحظ ان هناك مصطلحات تعبر عن هذا التمييز بين الفكر والعقيدة، مثل مصطلح (الفكر الديني).
اي ان الايدلوجية راسخة وتتعلق بثوابت استاتيكية، بينما الفكر متحرك ومرن وعملية دؤوبة ومستمرة للوصول الى المجهول وايضا الى الحلول.
من هنا يمكننا التطرق الى الفكر القومي والذي يعبر عن عملية ديناميكية تبحث في الايدلوجية القومية ومقوماتها وتحدياتها ومستجدات التوازنات حولها.
كما يعنى ايضا الفكر في مراجعة الاليات التي استخدمت للتعبير عن القومية وتطويرها والاستفادة من اخطائها واستحداث اليات جديدة.
هنا يجب ان نفرق بين مستويين:

الاول: القومية كحقيقة علمية تفرض ابحاثا ديموجرافية واجتماعية ولغوية وثقافية وتراثية.

الثاني: القومية كايدلوجية سياسية تفرض اليات سياسية.

كما انه من الواجب التفريق بين مفهومين:

الاول: القومية كوعاء حضاري يمكنه احتواء التنوعات العرقية وهو ما يشكل هوية ويؤسس وطنا.

الثاني: القومية كتجمع عرقي وهو ما يلفظ الاعراق الاخرى او يدخل معها في تنافس وصراع وهو ما يشكل عرقا ويؤسس لدولة سياسية مبنية على عرق غالب واقليات.

 

ومبحثنا هنا سياسي، لذا فهو يتعلق بالقومية كايدلوجية سياسية تستوجب اليات، وما هو الفارق بين منتوج اتباع المفهوم الاول وهو الحضاري، ومنتوج المفهوم العرقي.
ولعلنا هنا ننطلق من وقائع وتجارب شكلت دروسا مستفادة.
فلدينا تجربة جمال عبد الناصر والتي اتبعت المفهوم الحضاري للقومية العربية وانفتحت على حركات التحرر الوطني العالمية ورتبت شعاراتها بدقة (حرية- اشتراكية- وحدة)... حيث كان هذا الترتيب انعكاسا للاولويات، حيث التحرر الوطني من الاستعمار وامتلاك القرار الوطني، ثم اقامة مجتمعات الكفاية والعدل، ثم اقامة الوحدة كمشروع نهضوي يحصد محصلة الاستقلال والعدالة في طريق التنمية من جهة، وحماية هذه المكتسبات الثورية من جهة اخرى.
ولدينا تجربة اخرى لا بد من تناولها بالنقد وهي تجربة البعث حيث تم ترتيب الاولويات بشكل يبدأ بالوحدة، وهنا تكون فسرية واستباقية وعرضة للهجوم والاجهاض المبكر من الاستعمار واعوان الاستعمار والطبقات المستفيدة من التجزئة، طالما لم تمر المجتمعات بالتحول الاشتراكي الذي يخلق تجانسا واوضاعا تصب في صالح الوحدة وتضمن نجاحها.
ولعل تجربة الوحدة المصرية السورية والتي اجهضت مبكرا وشكلت ضربة كبرى لحركة القومية العربية، كانت نتاج هذا التعجل والذي نقول ونحن مطمئنين علميا وتاريخيا ان عبد الناصر لم يكن متعجلا لها وان اجندته كانت في هذا التوقيت مطروحا عليها التضامن العربي والتنسيق والدفاع المشترك وليس الوحدة السياسية، والتي تعجلها البعث واصر عليها في توقيت مبكر لم تكن الاوضاع قد مهدت وتهيأت له بعد.
كما ولا بد ان نتناول بالنقد ايضا تجربة البعث العراقي والذي مالت كفته تجاه العروبة العرقية وهو ما اوقعه في خطايا كبرى تتعلق بالتنوعات التي يتمتع بها العراق وهو ما خلق مشكلة اقليات استغلها الاستعمار، وكذلك مشكلة مع الجار الايراني، حرفت الصراع وتجسد هذا الانحراف في شعارات استبدلت العدو الصهيوني بايران، فلمحنا كتابات من امثال (الصراع مع الفرس صراع وجود لا حدود)، وهو ما اوقع التيار في النهاية في التحالف مع الحركات الارهابية كما راينا من تحالفات بين فلول البعث وداعش!
ونرى من الواجب ابضا ان نقول ان القومية كحقيقة علمية هي راسخة وليست هدفا او غاية، بينما القومية كايدلوجية سياسية هي وسيلة لغايات كبرى وهي التحرر الوطني والوحدة فهي وسيلة للوحدة، والوحدة وسيلة للتضامن والتكتل للمواجهة وتحقيق الاستقلال والحرية وهي الغاية، وكذلك الوحدة  وسيلة للبناء والتعاون والتكامل لتحقيق النهضة والتنمية وهي هنا ايضا الغاية.
الخلط بين الوسائل والغايات يوقع في المحظورات، فلو كانت القومية ايدلوجية عرقية فهي تتطلب الوحدة والتضامن مع الرجعية العربية واعوان الاستعمار العرب ونصرتهم في صراعهم مع قوى التحرر الوطني من غير العرب، كما يحدث الان عبر دعاوى مشبوهة تناصر دول الرجعية باسم القومية العربية، وهي من هذا الارتزاق والانحراف براء!
هنا لنا وقفة لتحديد المفاهيم والتي يجب ان نكرس بها هذه القاعدة:
العروبة هي وعاء حضاري والقومية العربية هي هوية جامعة عابرة للاعراق والطوائف تخلق وطنا كبيرا يتسع لمختلف التنوعات وهو ما يشكل اطارا سياسيا ضامنا للحقوق وللمواطنة اذا ما تحققت الشروط الموضوعية المتعلقة بالاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية.

وبالتالي فإن القومية كايدولوجية سياسية هي ايدلوجية تحرر وطني تستوعب مختلف التجارب ولا تتناقض مع التجارب التحررية الاخرى، بل هي في سياق تحالف معها.

ما يطرح اليوم من خلط بين القومية كايدلوجية للتحرر وبين القومية كدعوة عنصرية هو انحراف، وما يحدث اليوم من خلط بين القومية كوسيلة للتكتل والتحرر وبين كونها غاية مما يسمح بضم الرجعية على حساب حركات تحرر اخرى غير عربية، هو انحراف مشبوه.

كيف يعود للخطاب القومي سيادته وكيف يستعاد المد القومي؟

 

ان الظروف الواجب تحققها للثورات تنطبق على الظروف الواجب استعادة المد القومي بها، لان عودة السيادة للخطاب القومي تتطلب ثورة حقيقية على المفاهيم اولا، ثم على طريقة تعاطي القوميين مع مفهوم التنظيم وتعاطيهم مع السلطة.
وهنا نحن بحاجة الى الظرفين الشهيرين للثورات، الظرف الذاتي والظرف الموضوعي.
والظرف الموضوعي هنا متوفر حيث تجازوت التحديات ما هو تقليدي ومتعلق باشكالية الوحدة والتجزئة، لتصل المخاطر الى تجزئ المجزأ ذاته، واصبحت الاقطار مقسمة، اما فعليا وجغرافيا وديموجرافيا، واما مقمسة سياسيا ووجدانيا ومجتمعيا وثقافيا.
وبرصد عوامل هذه المخاطر نجد ان الاستعمار وفشل التنمية وغياب المشروع هي العلل الرئيسية.
وبالتالي فإن خيار الوحدة هو خيار حتمي والخطاب القومي الحضاري التحرري هو خطاب الانقاذ، بشرط توفر جوانب التحرر الوطني والاحتواء الحضاري والتحول الاشتراكي او وضع اسس فوق دستورية للعدالة الاجتماعية بالحد الادنى.
اما الظرف الذاتي والمتعلق بالتنظيم القومي فهو الغائب وهو عنوان الازمة وهناك عوامل يجب رصدها بصراحة ووضوح كما يلي:

 

- التشرذم التقليدي الغالب على قوى اليسار وتحول الخلافات الفكرية الى انشقاقات وتحول الطمع في الرئاسة الى حركات جديدة، مما تشكلت على اثره تنظيمات صغيرة متناثرة ومتصارعة.
- الاختراقات التمويلية وتحديدا الخليجية والتي خلقت ولاءات حرفت المبادئ وتحولت معها التنظيمات لمنابر متناقضة مع المبادئ ومتحالفة مع الرجعية وعمليا متحالفة مع الاستعمار!
- الفراغ الناشئ عن ضرب انظمة كانت تتمتع بالحس القومي وتحتضن التيارات القومية وتوفر لها المنابر والتموبلات اللازمة للتحرك ونشر الوعي والفكر.
- التطورات الناشئة عن فتنة (الربيع العربي) والخلط بين الثورات المستحقة والثورات الملونة وما نتج عن ذلك من صراعات بينية وهو ما شكل التباسات وفتن حقيقية تسببت في انقسامات بين القوميين.
- الاوضاع الاستبدادية التي احتكرت فيها السلطات العمل السياسي والخطاب الاعلامي واغلقت منافذ السياسة والتعبير وازالت هامش الحركة التي كانت التيارات المتنوعة تتحرك به، وقد اتفق في هذا الاستبداد التيارات الاسلامية والانظمة القمعية ولا نقول (العسكرية).

الوضع الراهن:

 

بتقدير للموقف للوضع الراهن يمكن القول باختصار، ان الفتنة قد زالت ولم يتبق من عوامل الالتباس شيئا، فقد اعلنت الرجعية العربية صراحة عن خيانتها للقضية المركزية وعن تعاونها المعلن وتحالفها مع العدو الصهيوني، وقد مرت الامة العربية بمراحل كبرى من الفرز للخيارات، وثبتت حتمية خيار المقاومة.
وبالتالي فإن الخطاب القومي ملزم بدعم المقاومة وحركات التحرر الوطني انطلاقا الى تحقيق الغايات المتعلقة بالاستقلال الوطني والتنمية.
واللبنة الاولى للم شمل التيار القومي والذي تحول الى (تيارات) هو الاتفاق على تقطة الأساس وعلى الغايات.
عند حدوث هذا الاتفاق يمكن الحديث عن تفاصيل تنظيمية تتعلق بشكل التنظيم وهيكليته وحدود تعامله مع السلطات وغير ذلك من التفاصيل التي لا قيمة لها دون اتفاق على المبادئ.

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع