بين "المارونية السياسية" و"الشيعية السياسية" مسافة تتخطى الطوائف ولا تخضع للمعيار الطائفي إلّا من حيث الاسم والعنوان الذي مثّل ويمثّل شريحة وازنة شاءت بكلّ حرّيتها أن تتخذ خيارًا سياسيًا يمثلها.

 

المصطلحان، وإن كانا غير دقيقين في توصيف الوجهة السياسية لطائفة كاملة، إلّا أنّهما بقليل من التفكّر يظهران أنّهما يحويان اسم الطائفة تماشيًا مع الصيغة اللبنانية ليس إلّا. فهما يعبّران في المضمون عن وجهتين سياسيتين تبلغان التناقض أحيانًا وتعبران الحدود الطائفية بحيث ستجد من كل المذاهب والطوائف مَن اتخذّ المارونية السياسية وجهة لمواقفه، وكذلك الحال بالنسبة للشيعية السياسية التي لم تضع يومًا معيارًا طائفيًا لمن رأى فيها مرحلة غيّرت وجه لبنان والغاية من إنشائه ككيان، فمنعت تحوّله الى بوابة يطعن عبرها الغرب سوريا المعادية للصهاينة، بل وجعلته في رأس قائمة البلدان التي تهدّد وجود "اسرائيل".. وهنا، يمكن الحديث عن التناقض الأول والأساسي بين مدلولات المصطلحين. فالمارونية السياسية، صديقة الغرب وابنة فرنسا لا تعادي "اسرائيل"، تتقبلها "دولة جارة" وتدعو إلى الحياد في الصراع الوجودي مع الصهاينة، فيما تعتبر الشيعية السياسية أن "اسرائيل" خلية سرطانية زرعها الغرب بما فيه فرنسا في قلب الوطن الكبير. وهنا، تتصاعد التناقضات حتى تبلغ كل تفصيل "خلافي" تحت سقف الكيان اللبناني، وتنطلق إلى العلاقات الخارجية وتشكّل حجر الزاوية لكلّ موقف اقليمي أو دولي.
في فترة طغيان المارونية السياسية المدعومة دوليًا، وتحديدًا غربيًا، بلغت الشوفينية اللبنانية مراحل تكاد تكون مرضية بشكل حقيقي.. معها نشأ نوع من الانفصام القومي بحيث راجت مقولات أنّ اللبنانيين ليسوا عربًا بل فينيقيون، وتشكّلت مسارات تنأى بلبنان الدولة عن محيطه العربي، وتدعو إلى عزله كونه "قطعة سما".. في الوقت الذي جعلت فيه البلد عبارة عن قطب ماروني فينيقيّ يوالي الغرب ويخضع له وأطراف تمّ استرضاء اقطاعييها وحصر تمثيل الناس من مختلف المناطق والطوائف بالإقطاع المسيطر فيها.. 
مع اشتعال الحرب الأهلية، شهدت المارونية السياسية بداية سقوطها، لا سيما في ظل تناحر "رؤوسها" فيما بينهم، ومعها سقط مدويًا المشروع المعروف بمشروع بشير الجميل والذي كان يربط لبنان الكيان بالكيان الصهيوني في وحدة مسار وعلاقة وظيفية يلعب فيها لبنان دور الأداة التي تحركها الصهيونية ومن خلفها.
في هذه الظروف المركبة والمتداخلة، كان الشيعة كما يصفهم أهل الحنين لطغيان المارونية السياسية هم الشريحة الأكثر فقرًا، الشريحة التي عانت من التجهيل والتعتيم والإقصاء وحُصر وجودها التمثيلي في فلك كامل الأسعد وبلاطه.. كلّ هذا لم يمنعها من التمسك بالامتداد القومي والثقافة العروبية المقاومة والتي كانت الأرض الأساس التي انتجت ونظّمت العمل المقاوم بشكله الحالي. وهنا، لا نقول إن العمل المقاوم هو عمل نشأ ونما في طائفة  الشيعة حصرًا، إلا أنّه وجد في هذه الطائفة كلّ الأبعاد التي سمحت بتطوّر هذا العمل وتحقيقه انجازات غيّرت خارطة الشرق الأوسط الجديد وفرضت ثقلها الذي انعكس على تمثيلها السياسي وثقله. 
باختصار، يمكن بعد هذا السرد تعريف الشيعية السياسية بالخيار الذي يقيس كل المواقف بمعيار المقاومة ومعاداة الصهيونية، وبالتالي، كلّ هجوم يسمّي "الشيعة" أو يستهدفهم يقصد حصرًا "الشيعة" بالخيار السياسي وليس بالانتماء الطائفي. ومن هنا، لا يمكن اعتبار الانقسام العمودي في لبنان انقسامًا طائفيًا، انّما هو انقسام سياسيّ بامتياز يتخذ من البعد الطائفي عنوانًا ليشير إلى مرحلة الثقل السياسي التمثيلي.

الآن، فيما "الشيعية السياسية" التي تُعبر عن الشريحة الأكبر من مكوّنات البلد تستمر في إسقاط مشاريع الغرب وخططه ليكون بلدًا "ذا وجه صهيوني" مقنّع بالحياد، تتخبط "المارونية السياسية" في رمادها وترمي على الخطاب السياسي وخياراتها التي سقطت مرارًا عباءة الطائفية والدين، في محاولة مستميتة لتنفيذ رؤى البيت الأبيض والصهاينة.. لكن يدرك الجميع، بما فيهم أصحاب الخيار الأكثر تطرفًا صوب التصهين، أن الزمن تغيّر، وأنّه صار يدعى "زمن الانتصارات" على العدو الصهيوني بمَن يمثّل، وبالتالي، أصبح سلاح "مذهبة" الصراع أو جعله يبدو طائفيًا هو الأداة الأخيرة التي ستسقط حكمًا كما سقطت كلّ الأدوات السابقة.

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع