اختلف منظرو وفلاسفة السياسة والاجتماع الغربيين حول تعريف "حرية التعبير"، لكنهم التقوا على انها امتلاك الانسان الحق في قول ما يشاء، وفي أي وقتٍ يشاء عمّا يشاء من أفكار وآراء، وأضاف آخرون حتى حرية نقل المعلومات والافكار الى قائمة التعريف.
ثُبِّت هذا المفهوم كحقٍ أساسي من حقوق الإنسان في شرعة هذه الحقوق وفي العهود والمواثيق الدولية، ورفعته الدول الاوروبية شعاراً وتنادت في اعتباره مقدساً من مقدسات الدول الديمقراطية، وإنه لا يجوز أبداً حرمان أي جهة من حقها في التعبير، فرداً كانت أو جماعة، وبطبيعة الحال، وكما كل الحريات، فحرية التعبير تتحرك وفق ثنائية الإطلاق والتقييد، ويدخل في تحديد موقعها من طرفي الثنائية امور عدة أقلها احترام حريات الآخرين وعدم المس بهم وبسمعتهم وبأشخاصهم المعنوية او الجسدية، اعتداء وظلماً وبهتاناً وكذباً وتدجيلاً و ..
واثارة هذا النقاش تأتي كردٍ على الاعتداء الصارخ الذي قامت به مجلة شارلي ايبدو الفرنسية على رسول الرحمة والانسانية محمد (صلوات الله عليه وعلى آله وسلم)، ونفاق ايمانويل ماكرون في تصريحه المعلن حول "عدم امكانية فعل شيء احتراماً منه لمبدأ حرية التعبير الذي يؤمن به".
قبل الرد على ماكرون، لا بد من الاشارة الى ان حرية التعبير التي يتفاخر بها الاوروبيون ويتنطحون بأنهم من وضعها من ايام الماكناكارتا وطوروها مع طروحات ونظريات فلاسفة عصر التنوير، كما يسمونه، من نيوتن وفولتير وروسو وهيوم وكانت، وردت في المنظومة العقدية والعملانية الاسلامية، وأطرح مثالين هنا لا على سبيل الحصر:
ففي الاطار العام للحريات، حيث منها حرية التعبير، يقول الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام): "متى استعبدتم الناس وقد خلقتهم امهاتهم أحرارا؟"
وفي علاقة الحاكم بالمحكوم، طلب الامام من المحكوم أن يكون حراً في تعبيره عندما يجد اي عيبٍ يراه في الحاكم، منادياً: "رحم الله من أهدى الي عيوبي"، بالاضافة الى مجموعة كبيرة من الاحاديث التي تتزاحم تحت ظل الآية الكريمة "لا اكراه في الدين".
والاسلام نهج الاعتدال، ولو حاول الدجالون توهين صورته، وحرية التعبير ليست مطلقة او مخنوقة في ناموسه، فلا افراط ولا تفريط، وهذا ثابت لدينا ولكن ابلغ الحجة في الرد على الخصوم ما اثبتوها في كتبهم وسلوكهم.. وعليه نقول:
يتغنى الفرنسيون بالاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي شاركوا في وضعه، حيث يصرح في المادة 18 أنه مكفول لكل شخص حرية الفكر والوجدان والدين وحرية اظهار الدين والمعتقد، وفي المادة 19 ما مضمونه ان لكل شخص الحق في التمتع بحرية الرأي والتعبير، وهاتان المادتان تفيدان الاطلاق لولا أن تدخلت المادة 29 فأفادت أن القيود التي يخضع لها الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته توجب ضمان الاعتراف بحقوق وحريات الآخرين واحترامها، وعليه فإن التهجم على معتقدات الآخرين هو تجلٍ واضح لعدم احترام حرياتهم ومحاولة لصدهم عن ممارسة هذه الحريات. ويُكمل البند بضرورة الوفاء بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع، فأين ما تفعله هذه "الإيبدو" من هذه المبادئ؟ وهل ايذاء اكثر من مليار انسان هو فضيلة؟ وهل سيساعد هذا الامر في إحلال النظام العام في فرنسا أم سيُعرضها اكثر للحقد الذي قد يتحول الى اعمال عنف بدافع الانتقام؟
كما ان ممارسة هذه الحقوق لا بد أن تخضع لاحترام مبادئ الامم المتحدة ومقاصدها، فهل من مبادئ هذه الامم التجريح والتهجم واساءة الادب وتجاوز الحدود من خلال اهانة المقدسات دون اي وجه حق، وبشكلٍ اعتباطي ينطلق من الشعور بالكراهية والحقد على القيم والفضائل؟
اما على صعيد الدستور الفرنسي والدساتير الاوروبية فإن القيود المفروضة على حرية التعبير تنسجم مع احكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 (المادة 19) التي تجيز تقييد حرية التعبير عن الرأي في بعض الحالات التي تستدعيها الضرورة وبالاستناد الى نصوص قانونية لاحترام حقوق الآخرين وحرياتهم، وهذه القيود وضعت لمنع الافراد من الاعتداء على حقوق وحريات هؤلاء. ولا يتسع المقام للتعمق في المطلب حيث ان الكثير من القوانين تقيد حرية التعبير بغية المحافظة على الامن القومي مثلاً او الانتظام العام او في حالات الكذب والاساءة المباشرة وغيرها.
مهلاً أيها الاعزاء، فهل حرية التعبير ممنوحة للجميع في فرنسا "امّ الحريات!!"، ومصانة كما يحلو للفرنسي الادعاء؟ بالتأكيد لا، فازدواجية المعايير ما فتئت تنخر فلسفاتهم ونظرياتهم وسلوكياتهم، مثال واحد انقله، ويكفي باعتقادي، فمن منا لا يعرف الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي الذي حُكم عليه من قبل القضاء الفرنسي عام 1998 بما يلي:
•السجن لمدة سنة مع وقف التنفيذ
•تغريمه بمبلغ 120 الف فرنك فرنسي
وتعرض ايضاً لمتاعب اذكر بعضها، حيث:
•رفضت دور النشر الفرنسية طباعة كتابه "الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية"
•اعتدي على المكتبات التي تبيع كتبه ولم يتخذ اي اجراء بالمعتدين
•التضييق عليه بأي طريقة ممكنة
جارودي لم يطعن في الديانة اليهودية، ولا في النبي موسى، ولا في العهد القديم، جارودي دعا لمراجعة علمية لرقم 6 ملايين قتيل تدعي المنظمات الصهيونية مقتلهم في الهولوكوست فاتهم بالعنصرية وبمعاداة السامية.
اذاً، حضرة الرئيس ماكرون، زعمت أنك لا تستطيع منع شارلي ايبدو من الاساءة لرسول الرحمة بحجة احترام "حرية التعبير" .. وأنت بالتأكيد مدرك لكل ما سبق وكتبته، فأفٍّ لك وما تدّعي.
باحث وكاتب سياسي
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع