وهُم صنّاع الحياة وحُماتها، وهم من ارتقوا إلى أعلى درجات ثقافتها، وذهبوا إلى أعمق معانيها، وهم الضاحكون المستبشرون، المبشّرون بالنصر، وهم المحترفون في صياغة التاريخ، والمتفوّقون في صنعتهم التي نمَت في أرض الفطرة، وتغذّت من تراب الأرض المشبع بالكرامة، وشربت من الغيم الحرّ كفايتها من ماء الفداء والإيثار.
ولهذا كان عنوان يوم الشهيد لهذا العام هو "صنّاع الحياة". وقد يستغرب البعض ممّن انقطعوا عن فطرتهم طويلًا، أو من فقدوا كلّ صلة بأبعاد معنى الحياة، واختزلوها في بقاء الفرد حيًّا هذا التوصيف ويقرأونه وكأنّه مجرّد استعارة لغوية سلسة، بل وقد يصل البعض حدّ الاشتباه بتناقضٍ ما بين الشهادة وبين صناعة الحياة.
بداية، يُعرف المرء بتعريفه للحياة، كمفهوم وكقيمة وكمسار. ويعرّف الشهداءُ الحياة بكونها دار ممرّ وجب أن يكون عبوره مؤثرًا في وجود الآخرين، وأن يحفظ خلاله الفرد ما يربطه بالجماعة، من سبقوه في مرورهم ومن تزامن مروره معهم ومن سيأتون بعده.  بالنسبة لهم، يتخطى مفهوم الحياة تلك المسافة الزمنية بين الولادة والموت، يذهب في الجذور إلى أقصى ما يستطيع لينطلق منها إلى تشكيل ذاكرة ما بعد رحيله، ويضمّ كلّ المفاهيم العالية كالإيثار والعميقة كالانتماء. ومن هنا، يرون فيها مسارًا كاملًا لا ينقطع بمجرد فناء الجسد، ولا يمكن اختصاره بمقاييس الزمان والمكان.
من هذا المنطلق، يصنع الشهداء حياتهم وحياتنا منذ أن يختاروا درب الشهادة، في تلك اللحظة التي تحسم فيها قلوبهم أمرها وترى في السماء محط رحالها ووجهتها، وترى في الدفاع عن حق الآخرين بمرور آمن عزيز في دار الدنيا واجبًا عليها، واجبٌ تحرص هذي القلوب على أدائه كاملًا ناصعًا. 
يبدأ الشهيد بصناعة الحياة منذ أن يرى أنّ دمه قطرات حبّ ستروي الأرض، ومنذ يدرك أن باستطاعته أن يكون خطوة في الطريق نحو الحرية الكاملة، منذ يرى في جسده قربانًا يُرفع من أجل حياة الآخرين وحرّيتهم وكرامتهم.
وحين ينتقل إلى احتراف صنعته، كمقاتل في جبهة للحق أو كجسد أراد أن يكون مخزن ذخيرة ينفجر بالعدو إن عزّ الاشتباك أو كثرت الحدود والتحصينات التي يحمي بها العدو نفسه، يكون قد انتقل عمليًا من دائرة الحياة التي نعرفها غالبيتنا إلى دائرة حياة أعلى تتمثّل في وهب الحياة من أجل حياة الآخرين. هذا المستوى من الإيثار هو ما حقّق كلّ نصر عشناه، وكل عزّ نشعر به.

 

يغفل الحاقدون عن حقيقة معنى الحياة كغفلتهم عن قيمة التضحية التي يبذلها الشهيد. ويذهب البعض إلى البحث في تفاصيل حياة الشهداء عن ثغرات يريد الحاقد تأويلها زورًا كي يثبت أن خيار الشهادة ليس خيارًا سويًّا. وعجز هؤلاء عن فهم طبيعة هذا الخيار وحجمه لا يعفيهم من جرم تسطيحهم لمعنى الحياة وقيمتها، بل ويضعهم في خانة من يرى في الحياة "غريزة بقاء" تُولد مع كلّ الكائنات، مضافًا إليها غرائز أخرى تتحكّم في مساره كله حتى يبدو أن لا فرق بينه كبشري وبين سائر الكائنات. في الواقع، كلّ الشهداء كانوا قبل الشهادة يعيشون حياتهم تمامًا كما الآخرين، هم طلاب وعمال وموظفون وفلاحون وفقراء ومقتدرون ومتعلّمون وأميّون. هم واظبوا على عيش حياتهم كما كلّ الآخرين، ولكن في مرتبة مَن يوقن بأن هذه الحياة، بكلّ ما فيها من حلو ومرّ لا تعني شيئًا إذا لم تتوّج بالبذل وتتزيّن بالفداء.. وهم لديهم ككل النّاس أحبّة، لديهم أمهّات شكّلن الصبر عجينا وخبزن وجعهن في مواقد قلوبهن كي يتسنى لسائر الأمهات أن تحظى بضمّات عزيزة من أبنائهن، ولديهم آباء من طينة الجبال صُنعت أكتافهم، يفخرون بالدرب التي اختارها أولادهم ويتحمّلون هول الفقد باحتساب ويقين. لديهم حبيبات ورفاق وأحبة يدركون جيّدًا أن خيار الذهاب إلى الشهادة هو خيار يتطلّب القدرة الأعلى على فهم الحياة كمسار يتصاعد كي يبلغ السماء.
"صنّاع الحياة" هي إحدى أجمل العبارات وأعمقها في توصيف الشهداء، فهي تختزن في كلمتين فعل الصناعة الذي يعني حكمًا حسن التخطيط والتجهيز والتنفيذ والدقّة، وتختزن حياة بلون حياتهم ينبض، وتختزن العشق الفدائي بأجمل صوره وأنقاها. 

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع