حين أُقرَّ قانون "الدولار الطالبي" تنفس الفقراء بضع قطرات من الهواء الخالي من القلق على حال أبنائهم من طلاب الجامعات في الخارج. لكنّه لم يكن نفَسًا كاملًا، فقبيل زفيره، علق تحت مقصلة المصارف، ولم يزل. تحوّل إلى نصّ مكتوب على ورق، تعلّقت على حبره حبّات تعب الآباء الذين لا يمتلكون أرصدة بالعملات الصعبة ليتمكنوا من التحويل منها إلى أولادهم، وأرق الأمهات اللواتي ارتضين أن تصبح أمومتهن رهينة تقنيات الاتصال عن بعد، واعتبرن الشوق قربان عودة الغوالي بشهادات عالية، أو ربما طمأنينتهن أن الغوالي هناك بخير.. وتعلّقت على حبره أيضًا انتظارات شبّان وشابات، الكثير منهم من المتفوّقين دراسيًا، وقد أضحوا مهدّدين بالفصل من جامعاتهم أو بالتشرد في بلاد الغربة، لأن نظامًا مصرفيًا حاكمًا قرّر أن ليس فقط لقمة الفقراء تُغمّس بدمهم، بل تعليم أولادهم، ومصيرهم كلّه.
أُقرّ القانون، لكن ما دخل حيّز التنفيذ من مضمونه كان السماح لأصحاب الملايين المودعة في المصارف بتحويل بعضها إلى الخارج، أما الموظفّون وذوو الدّخل المحدود، أي اللذين ودائعهم، إذا وُجدت، لا تبلغ عدد الأصفار التي تجاور أرقام ودائع الأغنياء، فهم وأولادهم في مهب رياح النهب المصرفي، والتعسّف و"السلبطة" التي يمارسها رياض سلامة بحكم دوره الوظيفي كأداة أميركية في الحصار، كما قبله.
هنا، يدور الأهالي بزادهم من الهمّ على المعنيين. يشرحون وضع أبنائهم الذين لا يحق لهم كطلاب مزاولة أي عمل مأجور في بلدان اغترابهم، وليس لديهم أيّ مصادر تمويل كالمنح الجامعية وغيرها.. يستعرضون حال بعض الطلاب الذين خسروا فعليًا عامهم الجامعي بسبب عدم تسديد الأقساط، وبعض الطلاب الذين صاروا ضيوفًا في مساكن زملاء لهم أو أقارب كحلّ مؤقت للسكن بسبب عجزهم عن تسديد بدل السكن، وحالات كثيرة لا يمكن اختصارها إلا بتلعثم صوت والد علم أن صغيرته طُردت من السكن الجامعي، وبدمعة سيدة تقسم أنّها تعلّم وحيدها عبر إرسال راتبها الشهريّ الذي تتقاضاه من عملها هنا، وتعيش في بيت أقاربها فقط كي تتمكن من توفير المال الذي يكفي لنيله شهادته..
وهنا أيضًا، عائلات من ذوي الودائع المحصّنة بالعملة الصعبة، يعرفون أن أبناءهم في الخارج قد أخذوا معهم في آخر عطلة وزيارة قاموا بها إلى لبنان كلّ ما يلزمهم هناك.. وأنهم بعمليات مصرفية بسيطة يتمكنون من سحب المبالغ التي يريدونها عبر بطاقاتهم المصرفية التي تعمل بشكل طبيعي في الخارج..
وبالمقابل، هناك في بلدان الاغتراب التي يذهب إلى جامعاتها طلاب لبنانيون، ينقسم هؤلاء الطلاب أيضًا إلى قسمين: قسم يشرب مع مرارة الغربة لوعة القلق على المستقبل الدراسي بحال استمرار الأزمة، و"حرقة القلب" على حزن أهاليهم وقلقهم وتعبهم التائه في أدراج المصارف وتعنّتها وإصرارها على محاصرة الفقراء.
وقسم آخر، من المترفين الذين وُلدوا وبطاقة مصرفية من ذهب في أفواههم. هؤلاء كآبائهم هنا. ليسوا مذنبين بقياس ما، ولكنّهم لم يتذوّقوا القلق الذي نتحدّث عنه، لا سيّما وأن نظام آبائهم هنا صان حقّهم بالتعلّم وبالعيش الآمن مهما بلغ مستوى الأزمة في البلد.
"الدولار الطالبي" جزء من حكاية "رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا"، وغصّة تحكي حكاياتنا نحن الفقراء، في كلّ الأرض..
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع