بات معلَناً أن الشرط الأميركي الأبرز الذي تبلّغه النائب جبران باسيل من واشنطن ليتّقي به شر العقوبات كان إعلان فك التحالف مع حزب الله. وصار معلوماً أن رفض باسيل جرّ عليه قرار العزل الأميركي. لكن ما لم يُعلَن هو الشروط الأخرى. جرى التداول، على نطاق ضيق، بأن «المطالب» الأميركية شملت أيضاً تسهيل مفاوضات ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، وفقاً للمقترحات الأميركية. الوسيط الذي يُلقّب بالنزيه، استخدم سيف العقوبات لفرض شروطه في مفاوضات الترسيم، قبل أن تصل المفاوضات حتى إلى نقطة حرجة.
السفيرة الأميركية، دوروثي شيا، حملت شروطاً إضافية إلى باسيل. بالمناسبة، يُجمع من يلتقيها على أنها تتعمّد إظهار الوقاحة، بصورة بعيدة كل البعد عن السلوك الدبلوماسي، إلى حدود مضحكة أحياناً، كتعمّدها، مثلاً، تكرار كلام معلّقي وسياسيي فريق 14 آذار عن إصبع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله! وفي هذا السياق من الوقاحة تحديداً، نقلت شيا إلى باسيل شرطاً يحول دون العقوبات، وهو أن يتعهّد رئيس التيار الوطني الحر بإحباط أي محاولة لـ«التوجّه شرقاً». أي أفكار تتصل بتحسين علاقات لبنان بالصين وروسيا، أو بالدول الإقليمية القريبة من لبنان، ينبغي أن يعمل باسيل على منع وضعها موضع التنفيذ. ترى الولايات المتحدة الأميركية في ذلك تعديلاً في السياسات الاستراتيجية سيُضعف نفوذها.
وفي مسألة التوجه شرقاً، أضافت شيا أمراً محدداً، يتصل بالجيش اللبناني، وهو منع تزويد المؤسسة العسكرية بأي عتاد أو سلاح أو تجهيزات، من خارج منظومة حلف شمالي الأطلسي والدول التي تدور في الفلك الأميركي. ينبغي أن يبقى الجيش أسير السلاح والذخائر الآتية من الولايات المتحدة الأميركية حصراً. وأيّ تعاون مع دول أخرى، سترى فيه واشنطن مسّاً بمصالحها، وعلى باسيل أن يعِدها بمنعه.
وفي الجيش اللبناني أيضاً، للأميركيين مصالح يجب على باسيل أن يحميها. بوضوح، ومن دون أي جهد دبلوماسي، قالت شيا لنائب البترون إن عليه أن يتعهّد بحماية قائد الجيش العماد جوزف عون، والأهم، التمديد لمدير المخابرات العميد طوني منصور. لم تستخدم كلمة التمديد، بل قالت إن ما على رئيس تكتل لبنان القوي أن يضمنه هو «عدم إقالة العميد طوني منصور». هي ترى أن منصب مدير المخابرات معقود لمنصور. وإحالته على التقاعد يوم بلوغه الثامنة والخمسين من عمره، بحسب ما ينص عليه القانون، هي إقالة في نظر السفيرة وإدارتها. لم تكتفِ بذلك.
بوقاحة أيضاً، طلبت من باسيل أن يلتزم بعقد اجتماع، برعايتها، مع كل من العماد جوزف عون والعميد طوني منصور، لتشهد على مصالحة بين «القائد» و«المدير» من جهة، ورئيس التيار من جهة أخرى. وبعد اللقاء، على باسيل أن يذيع بياناً يعلن فيه فكّ تحالفه مع حزب الله.
رفْضُ باسيل الإذعان للشروط الأميركية، ثم إعلان قرار العقوبات بحقه لم يكن خاتمة مطالب واشنطن الخاصة بالتمديد لمدير المخابرات. فبعد ذلك، أصرّت شيا على الضغط باتجاه ما تسمّيه «عدم إقالة الجنرال منصور». وجّهت رسالة إلى باسيل عبر أحد مساعديه، مهدّدة بالمزيد من العقوبات في حال مرّ الثامن من كانون الأول المقبل ولم يبقَ منصور مديراً للمخابرات.
لم يعد وصف الوقاحة هنا مجدياً للتعبير عما تقوم به الإدارة الأميركية في الجيش تحديداً. ثمة دولة تحدّد ضباطاً لتولّي مناصب حساسة في المؤسسة العسكرية. في بلاد يشكو أهلها محاصصة القوى السياسية والطائفية والمذهبية لجميع المناصب الإدارية والأمنية والقضائية، تأتي «طائفة» غير محسوبة، وهي الأقوى، وقوة سياسية غير مشكو منها، وهي الأقوى أيضاً، لتطالب بحصتها أيضاً. والخطر في الأمر أن هذه الدولة ليست سوى الحليف الأول للعدوّ الأول للبنان، وداعمته في جميع حروبه عليه، لكن الباب كان مفتوحاً لها في لبنان لتعيين شاغل المنصب الأمني الأخطر.
الرسالة السياسية من أداء شيا لا تحتاج إلى كثير عناء لتفسيرها. في إطار تعزيزها لمصالحها في لبنان، أولوية الولايات المتحدة الأميركية، حالياً، هي الإطباق على قرار الجيش، عسكرياً وأمنياً، بالتوازي مع ضرب حلفاء حزب الله. وفي هذا السياق، المطلوب حماية قائد الجيش العماد جوزف عون سياسياً، والحرص على الحفاظ على فريق عمله الموثوق من قِبَله ومن قِبَل الأميركيين، تمهيداً لوصوله إلى قصر بعبدا مستقبلاً، مع تحييد أي ضابط لا ترضى عنه واشنطن قبْل أن يصبح مرشحاً لخلافة عون في اليرزة.