ويحدثُ أن ينزلنا الدّهر ألف مرّة للردّ على نرجسي لا يرتقي لموقع خصومة ولا يجيد إلا "التغابي" في ما يسمّيه زلّة لسان تلو أخرى.. وبعض الزلّات زلّات عقل رخيص باحث عن زبون في سوق نخاسة المواقف.. أمّا وقد بُثَّ الكلام واتخذ له مكانًا في العالم الافتراضي وإن تحت عنوان السخرية فلا ضير من ردّ لن يعيد ضالًا إلى رشده، ولكن يشير بالإصبع إلى مكامن الخلل في نموذج يطرح نفسه "ثورجيًا" ولا يجد من يتلقفه سوى مراهقي السياسة وصغار تجّار المبادىء والمواقف والأفكار.
من المعيب على من ولد في خمسينيات القرن الماضي أن يحاول وبشكل طفوليّ الخربشة على خريطة انتصارات ناصعة رسمتها المقاومة بالدم وبالتعب.. على الأقل على سبيل الصدق مع الذات، فالكذب يشوّه فاعله وإن كان متقنًا ومحبوكًا جيّدًا، فكيف بكذبة تشبه أن يحضر ولدٌ صورة جبل عالٍ وبكل استغباء ممكن يحملها ويحاول أن يقنع مشاهديه أن في الصورة تلّ رمليّ.. ومن المعيب أيضًا على أكاديميّ أن يجهل أو يدّعي جهل الفوارق بين "العمل الفردي" و"العمل المنظّم" وبين التضحيات الفردية وبين منظومة خلفيتها الفكرية والعقائدية تذهب في التضحية إلى آخرها، وفي الإيثار إلى أعلى الدرجات.. كذلك من المعيب، وبشكل مقزّز، أن يخرج ناقدٌ للفساد ليستعرض "بضاعة فكرية" فاسدة، وأن يستمرّ في تخفيض سعر استعراضاته عسى يجد من بين الدول والسفارات من يستميله رخص البضاعة فيشتري.. ويتغافل عن حقيقتين أدركتهما معظم القوى السياسية في لبنان: الحقيقة الأولى تقول أن الأميركيين وسائر أدواتهم كدول الخليج صاروا أكثر بخلًا في تمويل من يسكب مواقفه في مسارهم، والحقيقة الثانية تقول إنّهم لن يدفعوا مالًا ولن يشتروا مناصب في المرحلة الحالية إلّا لمن يمتلك قوة تمثيلية حقيقية على أرض الواقع اللبناني. لذا، وجب أن يجد شربل من ينصحه بحفظ ماء وجهه أمام مرآته على الأقل، فهو الآن لا شكّ حين يحدّق فيها سيرى ملامح رخيصة لم تجد من يضع لها صورة على رف المواقف المحترمة.
الخصومة أمر صحيّ عادة، ومطلوب ويدلّ على عقول تعمل وتخطىء وتصوّب.. وقد يعجز خصم ما عن بلوغ مرحلة النديّة وهذا خاضع لظروف ومعطيات قد لا تكون بيده أو تحت سيطرته.وهنا لا يُلام خصم عجز عن أن يكون ندًّا. ولكن أن تطرح نفسك خصمًا لحركة تحرّرية يقرّ العالم كلّه بأمميّتها وبخروجها عن دائرة الحدود التي رسمها الاستعمار لتتخطى الكيان وتقارع العدو في كلّ ساحة وعلى كل الصعد، فينبغي أن تجيد قراءتها أولًا، ثم تجيد توصيفها بحقيقتها وليس بأوهامك وأمنياتك، ثم تبني في ذاتك وفي دائرتك ما يكفي من المصداقية ومن احترام العقول، سواء تلك التي تتفق معك أو تختلف، وبعدها تخرج إلى استديو مدفوع سلفًا كي تدلو بدلوك في النقد وفي الخصام..
في لبنان، يمكن الحديث عن خصوم لمنظومة المقاومة في السياسة، عن متضرّرين من وجودها لما فيه من تهديد على وجود الصهاينة، ولكن غالبية هؤلاء، ذوي الثقل التمثيلي المتفاوت حجمًا ونوعًا، يدركون أنّ هذه المقاومة، منظومةً وبيئة، ليست حالة طائفية تخلّلتها تضحيات فردية، وليست مجموعة أشخاص يُعرفون من ثيابهم.. وقول ذلك يضع قائله في خانة المهرّجين المملّين، الذي بالإضافة إلى افتقارهم للإبداع في الإضحاك، يصرّون على متابعة استعراضهم، حتى لو اقتصر الجمهور على مَن يسمّون أنفسهم "ممافيد"..
وهكذا، شربل الذي فاته قطار الانضمام إلى فريق السعودية ولم يجد من يكتب اسمه في قائمة مواعيد المتملّقين للسفارات، ولشدّة حماسته وإصراره على وضع رأسه "بين هالروس" عسى يجد له مكانًا يعوّل عليه، ظنّ أن قذف الكبار بالتوصيفات الصغيرة يصغّرهم ولم يفهم أنه لم يصغّر إلا نفسه، والدليل أنّه بالأمس بدا طفيليًّا لا يجد بيئة يقتات منها، ولا يجد مرآة يقف أمامها ويصرخ "أنا زعيم".. وبدا أنّه فهم مقولة "اكذب، اكذب حتى يصدقك الآخرون ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك" بشكل خاطىء، والكارثة الحقيقية تكمن هنا تمامًا.. حين يصدّق الكاذب نفسه، ولا ينتبه أن الآخرين ما صدّقوه يومًا، ولن..
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع