يدخل مصطلح "العمالة للعدو" في سوق التداول المسمّى "حريّة التعبير"، ويتخذ مكانًا له على رفّ الأخذ والردّ والتفسير والتفسير المعاكس. وبطبيعة الأحوال، كلّ بحسب موقعه من الصراع يفسّره ويستخدمه.
في البداية، وفي التعريف الموضوعي أوّلًا، العمالة هي إسداء الخدمات للعدوّ، سواء تلك التي يكلّف بها أحدًا أو التي يتبرّع بها أحد، أي سواء كانت مدفوعة أو مجانية. بل يتعدّى الأمر ذلك لا سيّما في زمن منصات التواصل المفتوحة ليصل إلى الخدمات المعلنة أو السرية، والمكشوفة أصلًا أو التي يقوم أحد بكشفها، بغضّ النظر عن الخلفيات والنوايا.
وعلى هذا الأساس، تبدأ العمالة حين يقوم أحد ما بنشر أي شيء حول العمل المقاوم، (معلومة/ صورة/ تسجيل مصوّر أو صوتي/ رأي) دون أن يطرح على نفسه السؤال التالي: هل يمكن أن يستخدم العدو الصهيوني هذا المنشور ضدّ المقاومة؟ مجرّد تجاهل هذا التفصيل يوقع المتجاهل في شبهة العمالة، علم بذلك أم لم يعلم. وهنا لا مجال للبحث في النوايا والخلفيات والتعمّد أو الجهل. النتيجة واحدة.. إن كان العدو سيتمكن من خلال المنشور أن يصل إلى أي معلومة، بل إن كان المنشور يحمل أي تأكيد لمعلومة يمتلكها ولكنّه ما زال في الطور التأكد منها، فصاحب المنشور وقع، على الأقل أخلاقيًا، في فخ العمالة.
في السابق، وتحديدًا قبل تحرير الجنوب عام ٢٠٠٠، كان للعميل صورة واضحة في عيون الناس. كان من السهل تمييز "اللحديين" أي جمع العملاء الذي اصطف طابورًا ذليلًا في أيار ٢٠٠٠ كي يتسوّل من العدو فرصة الهرب إلى الأراضي المحتلة. بعدها، ومع الأحكام القضائية المخفّفة حدّ الاستهتار بكل الالام التي تسبّب بها هؤلاء، ومع توسّع دائرة الخدمات التي يطلبها العدو من العميل والتي لم تعد تتطلّب لباسًا عسكريًا "اسرائيليًا"، ولا سلاحًا ظاهرًا ولا حتى معدّات اتّصال خاصة، ومع السقوط المدوي للقوة العسكرية الصهيونية في حرب تموز ٢٠٠٦، دخلنا في مرحلة صار فيها التعامل مع العدو سهلًا لمن أراد لنفسه ذلًّا كهذا. ومع تطاول بعض السياسيين على الخطوط الحمراء الوطنية والإنسانية والأخلاقية وتولّي البعض منهم مهمة "مخبر" لصالح العدو، تحوّلت العمالة إلى وجهة نظر تصونها أكذوبة حريّة التعبير ومسرحية الحق بالاختلاف وسور من الشعارات المركّبة والفارغة والمطرّزة بكلام ظاهره حق وباطنه سمّ وخيانة.
ومع ذلك، لم تزل العمالة وصمة عار قد تجد في القانون ثغرات تتسلّل منها، لكنّها تبقي صاحبها في دائرة فقد الشّرف، مهما كابر أو ادّعى عكس ذلك. فحين يتبجّح وقح برأي يقع تحت عنوان الخيانة والتطبيع، قد يجد أمثالًا له يثنون عليه، لكنّه سيواجه أيضًا حقيقة أنّ العدوّ قبل غيره سينظر إليه باحتقار. عدا عن نظرات الناس التي ستتبعه بما يشبه التوجّس الدائم. فهو بمجرّد الوقوع في تبني رأي خيانيّ، يفقد وإلى الأبد ثقة الجميع، حتى مَن دفعوه إلى اتجاه كهذا، ويصبح مسعّرًا لديهم في قائمة البضائع السهلة والرخيصة. ولتقريب المشهد، قد تجد المشهورة بالدعارة مثلًا جمهورًا من المصفقين والمرحّبين بما ترتكب بل وقد تجد من يسهّل عملها ويدافع عن حقّها ببيع شرفها، لكنها ستبقى بالنسبة للجميع، وأوّل الجميع جمهورها، شخصًا فاقدًا للأهلية الأخلاقية ولا يؤتمن على شرف مهما أجاد المحاضرة فيه.
ومن الطبيعي أن يزداد الأمر سوءًا حين ينتقل أحد ما من دائرة العمالة بمفهومها الأخلاقي إلى دائرة العمالة بوصفها جرماً يحاسب عليه القانون. هنا، تصبح الوصمة وصمة رسميّة مدعّمة بالأدلة وبحكم مهما طال أو قصر سيرافق المحكوم طيلة حياته، وسيصحبه في قبره، بحال وجد في تراب هذه الأرض فرصة لنيل حفرة فيها.
وأيضًا لتقريب المشهد، في قرى ما كان يعرف بالشريط الحدودي، عاش العملاء فترة طويلة مسلحين بالقوة التي منحهم إياها الصهاينة وبالاستقواء على الناس العزّل. رغم ذلك، ومع سقوط مشغلهم وهروبه من لبنان، بقيت عيون الناس تحاكمهم وترجمهم. من هرب منهم إلى فلسطين المحتلة لم يجرؤ حتى على طلب أن يدفن في قريته، ومن تجرّأ قوبل بالرفض وبالإهانة (رفض دفن جيفة العميل انطوان لحد في لبنان مثلًا)، ومن سلّم نفسه للقضاء اللبناني في حينها، تحاشى العودة بعد انقضاء حكمه إلى قريته تجنّبًا لنظرات يعرف أنّها لا ترى فيه سوى عاره.
وبالتالي، العمالة المثبتة قانونيًا والعمالة الواضحة أخلاقيًا تصلان بمرتكبهما إلى الدرك الأسفل ذاته.. ذاكرة الناس بل وحتى ذاكرة التاريخ ستسجّل الاثنين في الخانة نفسها، في سجلّ واحد للعار وللذلّ.. حتى في المرحلة التي صارت فيها "الخيانة وجهة نظر"، تبقى وجهة مدانة بما لا يمكن غسله، ومشبوهة بما لا يمكن تطهيره.. وإن كان كلّ عقاب على فعل جرميّ ينتهي بانتهاء مدته، فمهما كان العقاب على جرم العمالة، يصاحبه عقاب آخر لا ينتهي، بل يطول إلى ما بعد عمر العميل ويبقى لعنة ترافقه حيًّا وميتًا.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع