من الواضح أن ما تم السماح بعرضه في وسائل الإعلام من التقدير الاستخباري الإسرائيلي السنوي - وتحديداً ما يتعلق منه بحزب الله - ليس إلّا جزءاً يسيراً من حجم التقدير وتفاصيله التي عادة ما تتناول صورة الواقع والوضع وما تنطوي عليه من تهديدات وفرص، مروراً باستشراف السيناريوات المرجّحة والمحتمّلة والممكنة، وصولاً إلى التوصيات التي تقدّمها الاستخبارات للمستوى السياسي والتي لم تتم الإشارة إليها مطلقاً بشأن حزب الله. مع ذلك، فقد اقتبست التقارير الإعلامية الإسرائيلية ما سمحت الرقابة بنشره، حول مفاعيل الأزمة الاقتصادية والصحية ومدى تأثيرها على إرادة أعداء إسرائيل، وتصميم حزب الله على الردّ في مواجهة أيّ اعتداءات، مروراً بتقدير الاستخبارات إزاء إمكانية نشوب «أيام قتالية»، بين جيش العدو وحزب الله، في إشارة إلى استبعاد الحرب، وفي الوقت نفسه أن الطرفين سيتبادلان الضربات بشكل مدروس ومضبوط، بهدف محاولة كلّ من الطرفين تعزيز قدرة ردعه. ومع أن التقدير أقرّ بأن المستجدات التي شهدتها المنطقة في ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لم تؤدِّ إلى كبح تعاظم قدرات أعداء «إسرائيل»، إلّا أنه حرص على تكرار الحديث عن الصواريخ الدقيقة، باعتبارها التهديد الأكبر على الأمن القومي الإسرائيلي.
لم تنجح آمال «إسرائيل» بأن يشكّل انتشار كورونا والأزمة الاقتصادية التي يواجهها لبنان قيداً على إرادة حزب الله في تكريس وتعزيز معادلة الردع التي وفّرت للبنان مظلة حماية وأمن استراتيجي، والمفهوم نفسه ينسحب على أكثر من ساحة إقليمية تعادي إسرائيل. تجلّى فشل هذا الرهان في التقدير الاستخباري السنوي، للعام الجاري، لدى الإقرار بأنّ كل التحديات والصعوبات لم تضرّ «بإرادة وقدرات أعداء إسرائيل للعمل ضدها»، ليؤكّد تقارير إعلامية إسرائيلية بأن التقدير المتشكّل في الجيش والاستخبارات يؤكّد أنّ كلّ ذلك لم يضر «لا بالقدرات ولا بالاستعدادات». وسبقت ذلك أيضاً إشارة رئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، في كلمته أمام مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومي مطلع السنة الجارية، إلى أن «الصواريخ لا تمرض، ويمكن في أي وقت أن يقرّر الطرف الثاني تشغيلها».
مع ذلك، يبدو واضحاً أن من أهم ما يميز إنجازات حزب الله، ليس حصراً أنه استطاع أن يفرض وقائع ميدانية واستراتيجية... بل أنه نجح أيضاً في كيّ وعي مؤسّسات التقدير والقرار لدى العدو، وهو ما انعكس في نظرتهم وفهمهم وتقديراتهم للواقع وما ينطوي عليه من تهديدات وقيود كابحة. فبعد مضي أكثر من ستة أشهر على استشهاد أحد مقاوميه في سوريا، أقرّ التقدير الاستخباري بأنّ حزب الله لا يزال يملك التصميم والعزم للردّ على جيش العدو. وهو ما يؤشّر إلى حرص حزب الله على كبح أيّ تفكير لدى قادة العدو في التمادي في الاعتداءات، واستسهال استهداف مقاوميه في سوريا أو لبنان.
يأتي هذا الإقرار من قِبل المؤسسة الاستخبارية في الوقت الذي يعاني فيه لبنان من أزمات اقتصادية واجتماعية وصحّية متفاقمة. حضرت بعض تفاصيله في ما تم نشره من التقدير. وهذه الأزمات كان يُفترض بحسب الرهانات الإسرائيلية أن تشكل قيداً على حزب الله، وبالتالي تبلور فرصة تؤدّي إلى اتّساع هامش اعتداءات العدو. لكن تصميم حزب الله وعزمه على المواجهة بدّدا هذا الأمل والرهان.
وقد لفت رئيس الاستخبارات العسكرية، اللواء تامير هايمن، إلى أنه «رغم أن اقتصادات الشرق الأوسط في حالة تدهور و[تعاني من] وباء كورونا، لكن لم يتضرر مجهود بناء القوة في المنطقة». وضمن هذا الإطار لا تزال الصواريخ الدقيقة، كما في السنوات الماضية، تمثّل التهديد الأكثر حضوراً على طاولة صنّاع القرار في كيان العدو، وعلى رأس أولويات أجهزة الاستخبارات والجيش. واتّسمت مقاربة التقدير لهذا التحدي في السنة الحالية، بكونها نسخة مطابقة للمبادئ التي حكمت تقديرات السنوات السابقة، عبر الحفاظ على صياغة مُحدَّدة يبدو أنها تهدف إلى إخفاء المعطيات الجدية. وفي الأيام السابقة، تسرّبت إلى الإعلام الإسرائيلي «تقديرات» جيش الاحتلال بأن حزب الله بات يملك مئات الصواريخ الدقيقة. لكن التقدير الاستخباري لم يجارِ هذه التسريبات التي تتقاطع مع ما ألمح إليه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. وهو أمر قد يكون مفهوماً في بعض خلفيّاته باعتباره جزءاً من سياسة تعتيم مدروسة لها سياقاتها ورهاناتها وأهدافها المتّصلة بالساحتَين الداخلية الإسرائيلية والإقليمية - الردعية.
وتناول التقدير الاستخباري سيناريو جولة «أيام قتالية» على الحدود مع لبنان، في أعقاب رد حزب الله. ولكن كما هي العادة في كل الساحات، يلقي العدوّ بالمسؤولية على قوى المقاومة، متجاهلاً حقيقة أن حزب الله هو في موقع المدافع والرد عن سيادة لبنان وأمنه. لكن هذا النوع من المقاربة يكشف عن أن مسعى العدو الأساسي يكمن في التأسيس لمعادلة ينفّذ فيها اعتداءاته من دون أن يتلقى ردوداً رادعة. وهو ما لم ينجح في تحقيقه حتى الآن.