حضروا إلى الضاحية.. إلى حيث عاش قتيلهم عمرًا في معاداة كلّ ما يحيط به..
حضروا بفوقيّتهم البغيضة، بحقدهم، بتوجّسهم المفتعَل الذي يشبه الكذبة التي ارتكبوها وصدّقوها.. حضروا بمعلّميهم السفراء، بأصواتهم التي لطالما استخدموها في سبيل تشويه المكان وناسه. بل اجتمعوا في المكان الذي لطالما ناشدوا مشغلّيهم أن يحيلوه ركامًا، عسى يرتدّ أهل المكان عن الحبّ وعن المقاومة.
ركبوا أعلى ما في خيلهم من الاستفزاز للمحيط النقيّ، عسى النقاء يتشوّه ولو ببعضِ بشاعتهم. استحضروا طقم تنميط التعايش كلّه في سعي إلى "أيقنة" القتيل والبؤرة التي تواجدوا فيها آمنين.
شاؤوا أن تكون طقوسهم في تأبين من مات طقوسًا مختلفة عن كلّ الأعراف، حرصًا على معرفتهم المسبقة بأن "خالف تُعرف" قاعدة تصحّ في كل زمان ومكان. وذلك إن كان يقع في دائرة الحريّة المشروعة مهما بدا غريبًا ومفتعلًا، إلا أنّ اعتباره نموذجًا يحب أن يحتذى به أو صورة عن لبنان الذي يريده اعلاميو عوكر فهو اعتداء معنوي على الناس الذين يلتزمون الأعراف، بحيث يصبح مخالفو هذه الأعراف هم صورة بهية عن البلد، والباقون، أي الفئة التي تمنى القتيل أن تُقتل لتنتبه، هم دخلاء أو مخالفون.
حضرت وليّة أمرهم دوروثي شيا من وكرها. وقفت تفتعل تأثّرًا بشكل يقارب التهريج، وتحلّق جمعهم حولها في مشهد يعكس حقيقة المدار الذي فيه يسبحون ويُسيّرون.
بالمقابل، لم يخرج عليهم أحدٌ ليطرد مبعوثة الشر هذه من الضاحية. فأهل الضاحية الكرام يحترمون عرف احترام الجنازات، مهما زادت غرابة أطوار أصحاب الجنازة.
وأهل الضاحية ببصيرة ووعي يدركون أن حفل التأبين هذا ليس سوى مسرحية تريد استفزازهم واستجرار رد فعل مسيء منهم، ولو بكلمة واحدة، فلم يسقطوا في ما أُريد منهم أن يرتكبوه.
وأهل الضاحية، الذين ما عرفوا القتيل في حياتهم إلّا كائنًا يشارك في مؤتمر "فكّ شيفرة حزب الله" وغيره من مجامع التآمر عليهم، لم يسألوا أصلًا عن محلّ سكنه، ببساطة، لأنهم غير معنيين بالأمر، وإن كان جيرانه عرفوا أباه مشتكيًا لدى البلدية على المسجد بدعوى انزعاجه من صوت الآذان، أو عرفوا أباه مستضيفًا كبار المعادين للمقاومة، فلم يمنحوه يومًا مقدار حبة غبار من الاهتمام أو الانتباه لأنّهم يعرفون بفطرتهم وبوعيهم أن لا وزن ولا تأثير لهذه الحركات ولو سمّت نفسها "أمم".
وأهل الضاحية، يدركون، وهم أهل الأيقونات الحقيقية، أن مساعي العوكريين إلى أيقنة النموذج المعادي للمقاومة لن تصل إلى أي نتيجة، وأنّها مجرّد محاولات استثمار في الموت جاءت بعد أن سقطت رهاناتهم في جدوى استثمار أدواتهم الأحياء.
حضروا إلى الضاحية، وأرادوا تظهير حضورهم واجتماعهم فيها فعلًا بطوليًا، كسائر أوهامهم وهلوساتهم، ثم غادروا دون أن يعطيهم أحد مشهدًا واحدًا يوثّق وهمهم.. ولا شكّ أن اجتماعهم هذا وخاصة بحضور شيا في الضاحية كان جارحًا بالنسبة للناس، إلى حدّ ما، لكن هؤلاء الناس أثبتوا مرة جديدة أنّهم أهل وعي والتزام أخلاقي، وأنّهم كبارٌ لا يقارعون إلّا كبارًا.. وهي مناسبة جديدة لنقول، بمباهاة شديدة: هنا الضاحية! هنا الناس الذين ثقافتهم الوعي المقاوم، وهنا الشوارع المطهّرة بعطر الشهداء الذين مرّوا فيها، هنا الأزقة التي رائحتها الحب وسيرتها قوّة الحق العابرة للأزمنة.. هنا البيوت المتعبة الناطقة بحكايات المقاومة والصمود والحب والفقر والصبر، والبصيرة، الكثير من البصيرة..
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع