من بوابة مقتل الابن، خرجت العائلة من كهفها المظلم: لقاءات تلفزيونية وأخرى مكتوبة، مواقف اقليمية ومحلية، فوقية تبلغ حدًّا مرَضيًّا، هشاشة ثقافية مغلّفة بالكمّ الأكاديمي، خلفية بعيدة عن الحسّ الوطني بمسافات ضوئية، وشكل غريب من النرجسية المنفّرة.
قُتِل لقمان سليم.. فخرجت شقيقته من غرفتها (حيث قضت حياتها مع الكتب كما تقول)، ومزجت بين الحزن الظاهر والموقف المسبق والمجهّز سلفًا للظهور أمام الجمهور.. أحاديث خالية من الاتزان والمنطق، تضليل متعمّد فيما يخصّ هاتف الشقيق القتيل، موقف عدائي تجاه "أهل المنطقة"، موقف استعلائي مذهل حيال كلّ ما يمتّ إلى بيئة المقاومة بصلة، ومستخفّ بشكل مسيء بكلّ بديهيّات العقل الوطني.. وبناء على فرضية مستجدّة تقول إنّه يحق للمفجوعين ما لا يحق لغيرهم، اتخذت رشا، أو رباب مجدّدًا، من الفجيعة ذريعة للتعبير عن كلّ ما يدّخره عقل نما داخل كهف مظلم معبّأ بالعداء لكلّ ما يحيط به.
شيئًا فشيئًا، تحوّلت لقاءاتها الإعلامية إلى محطّة يوميّة ينتظرها الجميع. فما تقدّمه أخت لقمان تحوّل إلى مادة متداولة بين النّاس، تخفّف من ثقل الحجر الإلزامي الذي فرضه انتشار ڤيروس كورونا، وفي الوقت نفسه، تؤكّد حقيقة تقول إنّ الكلام صفة المتكلّم، وإنّ الشّاعر بنقصٍ في مكان ما في شخصيته يحاول إسقاط النّقص على سائر الناس، لأسباب لا بدّ أسهب في شرحها علم النفس ولا سيّما بشقّه العياديّ، ولا مجال لذكرها هنا.
بلغة عربية فصحى، احتارت رشا بأي التعريفات ترسم أخاها المجهول بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، والمعروف في دوائر الناشطين المعادين للمقاومة والدّاعين للتطبيع ومَن يتابعهم لسبب أو لآخر. قرّرت رسمه من وحي خيالها، فصار نورانيًا وقدّيسًا ومسيحًا وإمامًا ونبيًّا في آن!
ثمّ صدّقت على ما يبدو الرسم الذي ابتدعته في مخيلتها المحاصرة في كهفها، في "فردوسها" على حدّ قولها، لتحاكم بيئة كاملة وتتهمّها بأنّها البيئة التي لا تقدّر النورانيين وتضطهد القدّيسين وتتآمر على المسيح وتؤذي الأئمة وتنكر الأنبياء.. الأمر الذي للوهلة الأولى يبدو مدعاة تهكّم، يشير إلى أحد الاحتمالين التاليين: الشقيقة تحاول تمرير الوقت وملأه بالأحاديث المستفزّة والمثيرة للتهكم لتخفي شيئًا ما، أو أنّها بالفعل مقتنعة بما تقول. وإن كان الاحتمال الأوّل مصيبة، فالثاني هو المصيبة الأعظم، إذ إنّه من المؤسف أن يصل انسان، مهما كانت صفته، إلى هذا الدرك من تحقير الآخرين كي يقنع ذاته أنّه أكثر أهمية منهم. وكذلك من المحزن أن تكون الفرصة التي أتاحت لإنسان كهذا التعبير عن مكنون معتم إلى هذا الحدّ هي وفاة الأخ، بغضّ النظر عن الموقف من حياة الأخ ومن مماته.
حول رشا، سيّدتان تلعبان دورًا ثانويًا في مسرحية الاتهام الساقط منطقيًا وأخلاقيًا: زوجة القتيل ووالدته. وإن كانت رشا تتخذ من زوجة أخيها (الناشطة بدورها والمعروفة بتفانيها في خدمة العمل السفاراتي المعادي للمقاومة) شاهدًا على كلّ ما تقول: "مش هيك كنت قلّو؟"، فتجيب الزوجة بهزّة من رأسها توحي بالموافقة، فإن الوالدة، ومع كلّ التقدير لفجيعتها بفقد الابن، تحاول أن تبقى في المشهد إلى جانب رشا، وباعتماد الموقف نفسه، والنظرة الاستعلائية ذاتها: "أهل المنطقة دخلاء" مثلًا، أو "قتلوه لأن لن تنجب نساؤهم مثله"..
قُتل لقمان وما زالت ظروف مقتله سرًّا لا سيّما بظلّ إصرار شقيقته على "لا حاجتها للتحقيق"، واحتفاظها بهاتفه الذي تردّد أنها ترفض تسليمه دون ضمانات بعدم تسريب محتواه إلى الرأي العام. وإن كان بالمبدأ من المنطقي أن لا يتسرّب هذا المحتوى لمن لا شأن له به، فمن غير المنطقي أبدًا أن يكون الإصرار على ضمانة كهذه مذيّلة باتهام "الرأي العام" بالقتل أو بالتحريض على القتل. وعليه، يمكن الظنّ بأن السرّ الذي تعرفه رشا، ويحويه الهاتف، يفوق أهميّة إظهار الحق وكشف القاتل، بالنسبة لمحيط لقمان العائلي والسفاراتي والناشط.