ربما لا نجانب الصواب إذا قلنا إنه لم يتعرض حزب في التاريخ لهذا الحجم من الهجمات الإعلامية، ومحاولات التشويه المنظم التي تُشن عليه، ولا دُفعت موازنات، وسُخرت طاقات، واستؤجرت أقلام، كتلك التي استهدفت حزب الله مقارنة بحجمه، هذا عدا عن الحروب العسكرية والأمنية. وما يعنينا هنا هو ما صطُلح عليه بالحروب الناعمة، والتي يمكن تقسيمها الى ثلاث مراحل أو ثلاث موجات، تمثّل ثلاث استراتيجيات:
1- اصطياد السمكة: تطلق هذه التسمية على الاستراتيجية التي تعتمد على العمليات الإعلامية والنفسية والتي تستهدف الحزب مباشرة؛ بعناصره، وهيكليته، وعقيدته، وصورته، وهيبته، وسمعته، بهدف اسقاطه من أعين مؤيديه وبيئته، وجمهوره المباشر، والمتأثرين به. ويمكن المحاججة أن هذا النوع من العمليات بدأ منذ اللحظة الأولى لانطلاق حزب الله ومقاومته، ابتداء من تسمية «إسرائيل» المقاومة «بالمخربين»، مروراً بوصفها بالإرهاب، ثم محاولة تجريمها وتلفيق التهم لها بالتجارة بالمخدرات، وصولا الى محاولات تحويلها الى منظمة إجرامية تمتهن القتل والاغتيال، وآخرها مهزلة المحكمة الدولية.
2- تفريغ الاكواريوم: ويقصد من هذه الاستراتيجية، أنه طالما فشلت محاولات اصطياد السمكة واخراجها من الاكواريوم، فالأفضل التحول الى محاولة تفريغ الاكواريوم من الماء، وهو أسلوب آخر «لقتل السمكة» التي لا يمكن أن تعيش من دون ماء.
في الواقع، إذا كانت الاستراتيجية الأولى تسعى لاستهداف الحزب مباشرة، فإن الاستراتيجية الثانية سوف تستهدف بيئته (الماء الذي يعيش فيه).
لقد مرّت هذه الاستراتيجية بمراحل متعددة، لكنها تصاعدت في السنوات الخمس الأخيرة بشكل لافت. وتشمل هذه الاستراتيجية كل العمليات الإعلامية والنفسية والعقوبات الاقتصادية التي استهدفت الدوائر الأولى من المؤيدين للحزب، ثم لاحقاً توسعت الدائرة لتضع «كل شيعي» يُحتمل تأييده للحزب تحت سيف العقوبات الاقتصادية، والطرد والابعاد من بعض الدول العربية، بل والتصويب حتى على بعض من يقطن في دول غربية، ثم طالت من يتحالف معه ولو في السياسة الداخلية.
3- تلويث الماء: ويقصد بها، في حال فشل استراتيجية تفريغ الاكواريوم من الماء، فإن البديل هو تلويثه.
تمثّل هذه الاستراتيجية الموجة الثالثة من الحروب الناعمة التي تشنها واشنطن على حزب الله، وهي تعادل، عسكرياً، شن حرب إبادة على الشعب الذي يحتضن المقاومة؛ لأن معنى تلويث الماء، هو شن عمليات إعلامية ونفسية على بيئة المقاومة عبر أسلوب الكذب والافتراء، وهي عمليات تستهدف ثقافة، وعقيدة، وعادات، وتقاليد، وقيم، ومقدسات، وشخصيات بيئة الحزب، والطائفة التي ينتمي اليها.
ويمكن اعتبار حفلة السباب والشتائم، والاستهزاء والتضليل والتشويه، والتي أعقبت اغتيال المدعو «لقمان سليم» تقع في إطار هذه الاستراتيجية.
وفي الواقع، إن اللجوء الى هذه الاستراتيجية، لا يعني تجاوز ما سبق؛ إذ يمكن العمل على استراتيجية جامعة، تماهي الهجوم على ثلاثة محاور.
وبمقاربة بسيطة لهذه الاستراتيجية يمكن لنا أن نرصد بعض مفرداتها: تخلف، جهل، قذارة، فقر، سرقة، أمية، تفكك، تعصب، تحجّر.
وفي المقابل فإن أبرز المظاهر التي يمكن أن تشكل أهدافاً للحملة هي: الوضع الديموغرافي، اللباس، الطعام والشراب، الطقوس الدينية، العادات الاجتماعية، واللهجات المحلية.
وبعد هذا، يُطرح السؤال التالي: ما علاقة هذه الاستراتيجية في توقيتها باغتيال لقمان سليم؟ وما هي شروط هذا النوع من الحملات؟ وما هي أهدافها التي تسعى لتحقيقها؟
إن استراتيجية تلويث الماء تهدف، أو تفترض أنها ستؤدي الى أمرين:
الأول: مغادرة الماء ممن يريد النجاة ممن هو موجود فيها.
الثاني: عدم الاقتراب منها ممن هو خارجها لعدم صلاحها.
ولتحقيق هذه الأهداف، فإن الاستراتيجية تفترض أنها تستلزم ما يمكن أن أسميه بالتناظر؛ واقصد بالتناظر تقديم نموذج ينتمي ظاهرياً الى نفس الفئة المستهدفة (الطائفة) لكنه انتفض على عاداتها وتقاليدها.. فيكون النموذج المقدم بديلا للنموذج المستهدف.
من هنا، نفهم الحاجة الى «كبش محرقة» كلقمان سليم، وكذلك نفهم المبالغة والأبعاد التي دفعت الى تقديمه على أنه «مفكر» و«مثقف»، مقابل بيئة يصورون أنها مناقضة له. إن مبدأ «التناظر» هذا يعمل على تشكيل وعي جديد عبر تنشيط اللاوعي، ودفعه لتسويغٍ مقارن بين نموذجين. ويستلزم هذا الربط اللاواعي اجراء نوع من المقارنة بين المستهدف والنظير، فاذا كان «لقمان» مثقفاً، فالمقابل، جاهل، وإذا كان منفتحاً، فالمقابل متحجر، دون أن ننسى أن الحملة ركزت على عملية الاغتيال بوصفها استهدافاً «لفكر» القتيل، ولحريته في الاختيار والتموضع، فسلطت الضوء على الجانب الشكلي (مكتبة ودار نشر) وتجاهلت خطابه ودعواته للقتل الجماعي.
أما كيف تستهدف هذه الاستراتيجية من هم خارج الماء (خارج البيئة)؟ فيمكن الافتراض أن العمل هنا يقع على الوعي ايضاً؛ لأن الحملة تفترض أن حلفاء الحزب من البيئة الأخرى، سيسعون الى النأي بأنفسهم عن بيئة يعتبرونها على النقيض منهم.
لا شك أن الانجرار خلف العواطف في مواجهة هذا النوع من الحملات سيؤثر سلباً على بيئة المقاومة، وسيضع العدو في وضعية تقرّبه من تحقيق أهدافه؛ ولهذا نفهم السبب المتوافق مع منطق الوعي، والذي دفع بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الى دعوة أنصار المقاومة وبيئتها لعدم الانجرار الى السباب والشتائم؛ ليس لأنه أسلوب العاجز، والمرفوض وفق أخلاقيات الحزب وأدبياته، بل لأنه، ايضاً، لا يتوافق مع المصلحة في مواجهة هذا النوع من الاستراتيجيات.