تمثل التعيينات الامنية والقضائية اليوم أول تغيير جوهري في التركيبة الامنية، يستهل بها رئيس الجمهورية ميشال عون عهده، بما يطرح أمامه تحدياً أساسياً لتحقيق تكامل بين المؤسسات الامنية، تحت سقف رؤية أمنية وعسكرية متجانسة
مع صدور التعيينات الامنية وجزء من التعيينات القضائية اليوم، يضع العهد والاقطاب السياسيون أنفسهم أمام استحقاق أساسي يتعلق بطريقة التعاطي الرسمي والسياسي مع الاجهزة الامنية. وإذا كان ترؤس رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لمجلس الوزراء يعطي أهمية لهذه التعيينات، الاولى على هذا المستوى منذ تأليف الحكومة، فإن الاهمية المضاعفة تكمن في إدارة الحكم ككل لملف المؤسسات الامنية والعسكرية برؤية تختلف عن تلك التي سادت مراحل مختلفة من عهود ما بعد الطائف، علماً بأنها من المرات النادرة التي يُعيّن فيها قادة أجهزة أمنية في ظل وجود القادة الاصيلين، ولو كان هناك لغط قانوني حول وضعهم بفعل التمديد لهم أو المشكلات القائمة في أجهزتهم.
لأول مرة منذ الطائف تنفرد رئاسة الجمهورية، من خلال الخلفية السياسية و»المسيحية» التي أوصلت عون الى بعبدا، باختيار اسم قائد الجيش الجديد، بمؤهلاته المشهود له بها، من دون أي فيتو داخلي، وبتوافق دولي ورضى أميركي تحديداً. وقد تمكن عون من فرض خياره واعتماد العرف الرئاسي غير المكتوب في الدستور، بتسمية قائد الجيش الرابع بعد الطائف، بخيار معزول عن أي اعتبارات تتعلق بتسويات رئاسية وترتيبات إقليمية أو محلية. وأثبت أن له الكلمة الفصل كرئيس للجمهورية في هذا الخيار، بخلاف ما جرت عليه الامور في العهود السابقة حين لم يكن لأسلافه دور يذكر في هذا التعيين. وفي حين حفلت الاشهر الماضية بشد حبال وطرح أسماء عدة لمنصب قائد الجيش، ومنهم عمداء مشهود لهم بسيرهم الذاتية والعسكرية، فإن إصرار عون المستمر على تزكية العميد جوزف عون، غلب كل الحجج التي قدمت له: إن لجهة تعيين قائدين للجيش في عهده، منعاً لطموحات قائد الجيش الجديد وحلمه بقصر بعبدا، أو باختيار أسماء أخرى تتمتع برصيد عال من الكفاءة، وصولاً الى اقتراح أي اسم ما عدا ذلك يحمل اسم العائلة نفسها، ولو كان من بلدة العيشية الجنوبية، وليس حارة حريك. وإذا كانت مؤهلات قائد الجيش الجديد، وصفاته القيادية والعسكرية، كما غيره من الذين طرحت أسماؤهم، ساهمت في تزكية خيار رئيس الجمهورية، فإن ثمة معايير أخرى يفترض أن تكون أيضاً أخذت في الاعتبار، عندما تتحول التعيينات الامنية ركيزة أولى وأساسية في عهد رئيس الجمهورية.
فالرئيس عون يعتبر أن الحكومة الحالية ليست حكومته، بصفتها الانتقالية والمشرفة على إجراء الانتخابات فحسب. ويعتبر أيضاً أن مجلس النواب الحالي لا يتمتع، بفعل التمديد المزدوج، بشرعية كافية، ولا يمثله أيضاً.
أما التعيينات الامنية والقضائية المرتقبة اليوم، فهي أول بصمة حقيقية في رؤية رئيس الجمهورية التي لا تمثلها بطبيعة الحال وزارة شؤون الفساد أو وزارة شؤون رئاسة الجمهورية، لأن هذه التعيينات ستكون، بحسب سياسي مطّلع، «أول تغييير جوهري في تركيبة البلد الامنية» لم نشهد مثيلاً لها منذ سنوات طويلة؛ ليس لأن اختيار أسماء بعضها يشكل استمرارية تلقائية في مديريته، بل لناحية الدور الذي يفترض أن تمثله هذه المؤسسات في عمل متكامل لرؤية رئيس الجمهورية الامنية، بعيداً عن تبعية سياسية أو التحاق للمعيّنين بوزارات يتبعون لها. وستعبر، ولا سيما في الشق المتعلق بالمؤسسة العسكرية، عن عون نفسه الذي كان قائداً للجيش وصار رئيساً للجمهورية، وعن الدور المرسوم للمؤسسة العسكرية، كما أراده منذ أن غادر اليرزة الى بعبدا وباريس، وعاد الى بيروت في 2005، علماً بأنه لم يتوانَ يوماً عن الإدلاء برأيه في كل شاردة وواردة في الجيش، مصرّاً على ذلك، خصوصاً عند أي استحقاق عسكري وأمني خطر.
لكن دور الجيش لن يكون منفصلاً عن دور المؤسسات الامنية الاخرى، في حسابات رئيس الجمهورية. وإذا كانت المؤسسات الامنية فُرزت في السنوات الاخيرة فرزاً طائفياً، ولم يعد ممكناً تعيين مدير عام لقوى الامن الداخلي إلا بموافقة المرجعيات السنية السياسية الاساسية، كما المدير العام للأمن العام بعدما أصبح المركز محسوباً على الطائفة الشيعية، فإن تكامل الدور الامني والعسكري والقضائي بين كافة المؤسسات موضوع بجدية على طاولة رئيس الجمهورية، بصفته أيضاً رئيس المجلس الاعلى للدفاع، وقد كانت له كلمة أيضاً في لائحة التعيينات كلها، علماً بأن مؤسستي قوى الامن والامن العام، وفرع المعلومات فيهما، توسعتا وكبرتا وتطورت كفاءاتهما وتعزز دورهما الامني والاستخباري، في موازاة الجيش، خلال غياب عون عن لبنان، وهو أمر لم يعهده في فترة قيادته للجيش أو الحكومة الانتقالية. وهذا يضع أمامه تحدياً أساسياً في كيفية التنسيق والقيام بإدارة متجانسة لواقع أمني وعسكري يتوزع على هذه المؤسسات، كل من جانبها ووفق اختصاصها، بما يعيد الى رئيس الجمهورية دوره في التعامل مع كافة المؤسسات الامنية، فلا تبقى قيادة الجيش فقط محسوبة عليه، فيما الاجهزة الاخرى تتبع لمرجعياتها السياسية والطائفية، علماً بأن الاسماء المطروحة التي ستتولى اليوم مناصبها الجديدة، تتمتع بكفاءة مسلّم بها، وتحظى بتغطية سياسية جامعة من كافة القوى السياسية الحقيقية في البلد، بعدما أشبع ملف التعيينات درساً لأشهر، وهذا لم يحصل منذ سنوات طويلة، الأمر الذي يزيد من فرص تحقيق نجاحات بالحد المطلوب، وسط تحديات أمنية داخلية وإقليمية، في ملفات متشعّبة، بدل الغرق في تجاذبات وتشنجات وسجالات، كما حصل لسنوات، لا تصبّ في خدمة المؤسسات العسكرية والأمنية والبلد ككل.