بعد انتظار دام 12 عاماً، تبدو العجلة السياسية في لبنان تدور في المسار الصحيح ولو أصيبت بخلل في التوازن. فهي مقسومة بين مناقشة موضوعي الانتخابات والموازنة. ومحور هذه المناقشات هو المواطن الذي لا يعلم من أين هبطت على رأسه الأحاديث عن زيادات ضريبية جديدة وكأنّه لا تكفيه الأوضاع الاقتصادية الراهنة التي يواجهها يومياً. ولكن، ماذا لو أوضحت البراهين العلمية أنّ الضرائب ممكن أن تكون مفيدة للصّحة العامّة؟
رسوم سير إضافية، فرض رسم استهلاك على استيراد المازوت، رفع معدلات رسم الطابع المالي، رفع الرسوم على المشروبات الروحية المستوردة،... وغيرها من الزيادات الضريبية التي يتمّ التداول بها اليوم دون الأخذ بعين الاعتبار الصحة العامّة.
فالضّرائب وكيفيّة فرضها موضوع علميّ اقتصاديّ، إن طبّق محترماً الأدلة والبراهين، يمكن أن يساهم في تعزيز الصحة وتحقيق وفرة اقتصادية.
فبحسب مستند الاستجابة السريعة (K2P Rapid Response) الذي وضعه مركز ترشيد السياسات الصحية (K2P Center) في كليّة العلوم الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت، إنّ فرض ضرائب إضافية على بعض المواد أو اعتماد إعفاءات ضريبية على أصناف أخرى هي وسائل توجّه المستهلكين بشكل غير مباشر إلى ترشيد خياراتهم واستهلاكاتهم.
إنّ المنتجات كالتبغ والكحول وبعض الأطعمة تؤثر بشكل كبير على الصحة، حيث إنّها ترتبط بعدد من الحالات المرضية، كالسرطان، وأمراض القلب والشرايين، والسكتة الدماغية. لذلك، فإن فرض ضرائب إضافية يمكن أن يرشد خيارات المستهلكين، بما يساهم في الحدّ من المشاكل الصحية، ويحقّق فوائدَ اقتصادية.
وأشارت البراهين العلمية الى أنّ استحداث ضرائب على التبغ ومنتجاته هو إجراء فعّال للحدّ من استهلاكه. في مصر مثلاً، أدّت الضرائب على التبغ عام 2012 الى انخفاضٍ بنسبة %14 في المبيعات بظرف سنتين. وأكثر، إنّ فرض ضريبة على بيع علب الدخان عام 1992، ساهم في توفير مبلغ مالي بقيمة 52 مليون دولار في 2013-2014. وتمّ تخصيص هذه الأموال لتغطية قسم كبير من التأمين الصحي للطلاب المصريّين. أمّا في تركيا، فقد انخفضت نسبة المدخّنين من %31 الى %27 بين عامي 2008 و2012. وتجدر الإشارة الى أنّه يمكن تحقيق هذا الأمر في لبنان ضمن التطبيق الفعّال لقانون منع التدخين.
كما أنّ فرض ضرائب بشكل عام على الكحول هو إجراء يساهم في تخفيف استهلاك الكحول. ولكن هذا الأمر غير كافٍ لأنّ ثمن بعض المشروبات الكحولية رخيص لدرجة أنّ رفع الضرائب لا يحدث أيّ تغيير. وفي مثل هذه الحالة، وبحسب الأبحاث، يتمّ استخدام مبدأ السعر الأدنى للوحدة (Minimum Unit Pricing). وهذا الحلّ هو عنصر واحد من سلّة حلول متكاملة وشاملة تهدف إلى الحدّ من استهلاك الكحول وخاصّة عند فئة الشّباب، وهذا بحسب المذكّرة الموجزة للسّياسات الصحية (K2P Policy Brief) الصادرة عن المركز نفسه.
إنّ استحداث أو إضافة ضرائب على منتجات غذائية معينة مثل المشروبات التي تحتوي على كميات عالية من السكر والأطعمة السريعة، يؤدي إلى انخفاض الطلب على هذه المواد التي تؤذي الصحة. وهذا يترافق عادة مع ارتفاع الطلب على منتوجات أخرى مثل عصائر الفاكهة والحليب.
إنّ استحداث وفرض الضرائب ليس أمراً سلبياً كما يعتقد المواطنون، فالضرائب إن فرضت بطريقة علمية وعادلة وواقعية، وتتأقلم مع الواقع اللبناني، ممكن أن تعود بالفائدة على الشعب والدولة. فيجب الأخذ بعين الاعتبار أن يتمّ استخدام مال هذه الضرائب لتنمية القطاع الصحي في لبنان وذلك من خلال: تمويل أفضل للرّعاية الصحية الأولية، تنمية وتحسين الخدمات الصحية، تأمين التغطية الصحية الشاملة، رفع السقف المالي للمستشفيات، بناء المستشفيات الحكومية في المناطق النائية وفي بؤر الفقر... يشدّد مدير مركز K2P، د. فادي الجردلي، على أن يكون فرض الضرائب (إن حصل) مصحوباً باستراتيجيات وبرامج "لمساعدة الأفراد الذين لم يتمكنوا من تقليل استهلاكهم، وبالأخصّ الأفراد ذوي الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدنية، وذلك لتعزيز المساواة". وفي نهاية المطاف، يجب على المعنيّين كافّة أن يستعرضوا البراهين الدامغة بشكل شفّاف ثمّ أن يشتركوا في حوار جادّ لجعل الضرائب مفيدة للمواطنين.